dimanche 30 avril 2017
الإعجاز العلمي( مواقع النجوم)
ندوات إذاعية - إذاعة دار الفتوى - الإعجاز العلمي - الحلقة 04 - 30 : مواقع النجوم.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2003-10-29
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
قصتي مع البحر
تحقيقاً لرغبة الكثير من الأخوة الأفاضل، سأعود بكم إلى الوراء لأروي لكم قصة غرقي في البحر مع شيخي أبي أنس - أحد علماء المسلمين الأجلاء - وطفله الصغير الذي كان عمره لا يتجاوز ثلاث سنوات، سأروي لكم اليوم قصّتي في البحر.. إنّها قصّة مَنْ وقف على شُرفة الموت ، وشمَّ رائحة النزع ، وعانق مخالب الاحتضار، إنّها قصّة ليست قريبة العهد نسبيّاً، ولكن أحداثها المرعبة وفصولها المثيرة لا تزال تتمثّل أمام ناظريّ فكأنها الحلم المُرعب، أو الكابوس الثقيل، كلما هممت أن أكتب عنها تهيأت لي صورة الموت فاغراً فاه، مُشهراً أنيابه فداهمتني رجفة الموقف، وهيبة الحدث، فألْجمتْ قلمي، وعصفتْ بذهني، وطفقت أمسح بكفيّ على وجهي وجسدي لأتحسس نبض الحياة.. ولتتوارد الأسئلةُ أمامي.. هل صحيحٌ ما حدث؟! هل أنا اليوم حيٌّ أُرزق؟! هل لا زالت أنفاسي تتردد وقلبي يخفق؟! فأين عبارات الحمد التي تفي بمشاعر الامتنان لله عزّ وجلّ؟!! وأين كلمات الشكر التي توازي فضل الرحيم الرحمن السلام المؤمن الحفيظ العليم؟!! يا للمنّة!! ويا للعطاء!! ويا للفضل والسخاء!!
رحلة الصيد البحريّة :
انطلقنا من مرفأ مدينة الملك فهد
بدأت أحداث القصّة بعرض فكرة "رحلة الصيد البحريّة" على شيخي الداعية الإسلامي المشهور، والخطيب المفوّه، والباحث المحقق، وإمام الجامع الأشهر بمدينة الخبر على الشاطئ الشرقي للمملكة.. إنّها رحلة صيد في كبد البحر ولكن يا ليت شعري كم من صيّاد أصبح صيداً، وكم من مخبرٍ أصبح خبراً عابراً:
جُبلت على كدر وأنت تريدهـا صفواً من الأقذاء و الأكدار
ما إن يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يُرى خبراً من الأخبار
***
وحظيت الفكرة بموافقة صاحبي بعد إصرار مني، واتفقنا على الانطلاق بعد صلاة العصر في ذلك الخميس من مرفأ مدينة الملك فهد الساحلية، وحضرت أنا وصاحبي في الموعد المقرر ومعه ابنه أنس – عمره ثلاث سنوات- واستقلينا قاربي الموسوم بـ "هاني الأول"، وودعنا شاطئنا لنستعرض البحر بمركبنا الصغير في نهار ساكن النسمات، زكيّ النفحات، وكأنما نسير في صَدَفة زرقاء، تحيطنا من حولنا زُرقة البحر الصافية وتغمرنا من فوقنا زُرقة السماء الصافية والموشحة بقطع فارهة من السَّحاب الأبيض الرائع، المتقطّع كاللؤلؤ المنثور في صدفتنا الزرقاء. ظفرنا بسمكة كبيرة
وفي هذا الجوّ الرائع والمنظر الساحر كنتُ أستمع في استمتاع إلى حديث صاحبي الشائق، وهو يحدّثني ويحدّث ابنه الصغير عن أدعية الركوب، وعن عظمة الله، وعن البحر، وعن حديث القرقور وقصّة صاحب الأخدود.
ومع الحديث الماتع ذهبنا بعيداً في عُمق البحر، ثم أوقفنا قاربنا لنبدأ عمليّة الصيد، وما هي إلا دقائق معدودة حتى ظفرنا بسمكة كبيرة كدت وصاحبي أن ننوء بحملها لإدخالها في القارب ليصرخ أنس خوفاً من تلك السمكة، ونسارع إلى طمأنته، وبيان محاسنها، وصفاتها، ولطف أخلاقها، وأصالة معدنها، ونعدُه بوجبة عشاءٍ بحريّة لذيذة.
المفاجأة التي أصابت ركاب القارب بعد تغيير مكان صيدهم :
ثم قررنا أن نغير مكاننا لنظفر بصيدٍ آخر وتحدث المفاجأة.
المحرك الأصلي لا يعمل، ولم تفلح محاولاتي الكثيرة في تشغيله..
واضطرني هذا لتشغيل المحرك الإضافي، وهو محرّك أضفتُهُ مؤخراً بناءً على شروط حرس الحدود كأحد شروط السلامة البحريّة إضافة إلى أطواق النجاة..
ويشتغل المحرّك الاحتياطي، ونتحرك باتجاه الشاطئ، وأفاجأ بأن الخزان المجاور للمحرك قد امتلأ بالماء لأسباب لا أعلمها حتى الآن، وربما يكون لحدوث تهريب من صُرّة القارب المعدّة لتنظيفه على الشاطئ..
غاص المركب بسرعة في عمق البحر
وهنا تتصاعد أنفاسي، ويحاصرني القلق، ويداهمني الخوف، ليس على نفسي فأنا أجيد السباحة- ولله الحمد- ولكن على ذلك الشيخ الفاضل الذي نفع الله بعلمه القاصي والداني، وفتح الله له قلوب الناس، وأظهر الله به السنّة، واعتصرني الألم على ابنه الصغير.
وهممتُ أنزحُ الماء والشيخُ يساعدني ولكن هيهات إنما هي لحظات قليلة، ويختلُّ توازن المركب من الخلف ليغوص في قوّة وسرعة باتجاه عمق البحر، وفي غمرة الحدث يلقي الشيخ إليّ بابنه أنس لأتلقفه، وتبتلعنا دوامة الموج التي أحدثها القارب لأغوص مع الطفل الصغير في الأعماق، وأصعد بصعوبة بالغة، لقد كانت هذه اللحظة من أحرج اللحظات في حياتي. لأن الموقف كان أقوى من مهارات السباحة التي أجيدها، ولقد كدت أن أفقد الطفل في عصفة الموج، وهول الصدمة، لولا توفيق الله وعنايته وتثبيته.
ونعود للسطح بعد هدأة العاصفة، وأنا أمسكُ بالطفل. وكلّي تساؤل عن حال الشيخ ومآله، ولقد أيقنت أنه لن ينجو من ذلك الموقف أبداً لأنّه لا يجيد السباحة، ولكن بفضل الله وجدت صاحبي ممسكاً بجالون فارغ، ومن كرم الله ولطفه أن تلك الحركة السريعة للقارب تسببت في فتح صندوقٍ مغلقٍ كان يحوي أطواق النجاة، والتي طفت بدورها على سطح الماء، ألقيت بطوق نجاة لصاحبي، والذي استعاد توازنه، وجذبت طوقاً آخر لي. لتبدأ الرحلة الشاقة الشاقة في الوصول إلى الشاطئ البعيد..
روعة البحر و سكونه و ثورته :
سبحان الله.. إنها مجرد ثوان معدودة تلك التي تفصل بين الأمان والخوف، والمتعة والمشقة، والنعمة والنقمة، والسكون والعاصفة.
خلق الله هذا البحر السادر الهادر فما أجمله في سكونه، وهدوئه، وصفائه، وعظمته، وانشراحه، ولكن أيضاً ما أسرع غدرته، وما أقوى ثورته، وما أشد صولته، وما أعظم سطوته..
فيه روعة جمال وعليه مهابة وخشوع وله طعنة لا تكاد تخطئ !!
إنه - بقدرة الله تعالى- يحمل الأرزاق.. ويقطع الأعمار..
إنّه يبعث الأمل.. ويجلبُ الألم..
إنّه يبهج الناظر.. ويحزن المُثكل..
كم من بعيدٍ قرّبه.. وكم من قريبٍ بعّده..
ربما يحمل المرضى إلى مواطن الاستشفاء، وربما يهلك الأصحّاء ويبتلع الأحياء..
لقد تحولّت تلك الصَدَفة الزرقاء إلى خطر أحمر، وتبدّل ذلك الصفاء إلى طوفان هادر، وتلك النفوس التي كانت قبيلُ منشرحة تضيق الآن بتزاحم مشاعر الخوف والحزن، وتأنيب الضمير والرجاء في فرج الله.. وقد تحشرج الصدر واستحكم الأمر فلا منجى من الله إلا إليه، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
الإيمان الصادق والعقيدة الراسخة تتجلى ثمراتهما في أحلك الظروف :
كان الوقت قبيل الغروب ورجوت مرور أحد
كان الوقت قبيل الغروب.. وكنت أرجو من الله أن يسخّر لنا من حرس الحدود أو من الصيادين من يعبر بالقرب منّا فيمد لنا يد العون والمساعدة، وتتطاول الدقائق فكأنما هي السنوات، ويضمحل الرجاء فيما سوى الله من أسباب، ويتلاشى الأمل مع إغماض الشمس لعينيها لتسدل الستار على يوم عصيب، لا زلنا نكابد لحظاته، ونتجرع سكراته، وتتركنا الشمس على صورة رجل يحمل طفلاً صغيراً يصارع به الأمواج، ورجل آخر متعلّق بجالون وطوق نجاة، هما بالنسبة له كل ما تبقى له من أهداب الحياة، وأسباب النجاة، بعد حفظ الله عز وجل.
لقد كان الشيخُ أثبت منّي إيماناً، وأقوى عزماً، وأقرب إلى الله عزّ وجلّ، حيث أخذ يشد من عزمي، ويذكرني بالله عزّ وجلّ، واللجوء إليه في الشدائد، ويتلو عليّ أدعية الهمّ والكرب، ودعاء يونس عليه السلام، بل بيّن لي أحكام الوضوء وكيفيّة الصلاة في مثل هذا الوضع، وأوصاني بإشغال قلبي ولساني بالذكر.
مرت طائرة عمودية دون أن يرانا ربانها
إنها طبيعة الإيمان الصادق والعقيدة الراسخة حينما تتجلى ثمراتهما في أحلك الظروف، حينما تحمرّ عاصفة البلاء، ويهيج طوفان الفتن، فإذا القلوب المفعمة بالإيمان الحق والعقيدة الصافية ترسخ رسوخ الجبال فلا تميل ولا تحيد، بل تقف كالملاذ الآمن لدهماء الناس، وتقترب كالشاطئ الساكن الذي يتلقف الغرقى من كماشة الهلاك..
كان الشيخ قريباً مني يؤنسني، ويثبتني، ويهوّن المصاب في عيني، ويبعث الأمل في فرج الله.. وكان ينادي علي بين الحين والآخر..
يستلقي الشيخ على ظهره ممسكاً بأطواق نجاته، وهو وضع يصعب معه رؤية ما حوله. ثم يسمع صوتاً فينادي عليّ مبشراً بقدوم قارب، وألتفت يمنة ويسرةً بقدر ما يسمح لي الظرف، ولكن يتبيّن لي بأنها طائرة عمودية ولقد ظننتها جاءت تبحث عنّا، حيثُ لوّحت بيدي وصرخت ولكن لا حياة لمن تُنادي.
وتتماوج بنا حركة البحر صعوداً ونزولاً، واقتراباً وابتعاداً، وأدركت أننا سنفترق بحكم اتجاهات الموج.
افتقاد صاحب القارب صاحبه الفاضل بصوته المؤنس و أذكاره المضيئة :
لقد كانت جميع الاحتمالات واردة، فإما أن يمنّ الله علينا بالسلامة، أو أن أهلك ومعي الطفل، أو أنجو أنا ويهلك الطفل، أو أن يهلك الشيخ، بل إن مزالق الموت حينها أقرب لنا من جسور الحياة. وعندها طلبت من الشيخ – تحت وابل من تأنيب الضمير- أن يسامحني وأن يحللني مما اقترفته في حقّه وحق ابنه وعائلته إنْ حصل مكروه، كلُّ ذلك انطلاقاً من شعوري بالتقصير لأنني كنتُ من اقترح الرحلة، وأعدّ القارب، وخطّط للنزهة.
ويحينُ علينا وقت صلاة المغرب، وعملتُ بوصيّة الشيخ فنويت الوضوء على وضعي، وصليت المغرب في عرض البحر خائفاً أترقب. ويدلهّم الليل، لم أعد استطيع أن أرى صاحبي ولكني لا زلتُ أسمع صوته، كان يناديني بين الفينة والفينة: يا إبراهيم كيف حالك؟ وكيف حال ( أنس )؟ فأردُّ عليه مباشرة: كلانا بخير، ينقطع الصوت فترة فأناديه: يا أبا أنس كيف حالك؟ فيقول: أنا بخير، وهكذا.
وبدأ الصوت يتلاشى تدريجياً بسبب تباعدنا، والموج يحمل كلا منّا إلى جهة، ومرت دقائق قليلة حتى يخيل لي أني أسمع صوته يناديني، ولا أدري هل كان يناديني أم هو مجرد استرجاع لصوته السابق!! وحتى أقطع الشك باليقين أصبحت أناديه بصوتٍ عالٍ فلا أسمع أي إجابة!! وأدركت حينها أن الوداع قد حلّ، وأن الأمر أصبح أكثر صعوبة عليّ من السابق، حيثُ بدأت أفتقد صاحبي الفاضل بصوته المؤنس، وكلماته المثبّتة، وقُربه الدافئ، وأذكاره المضيئة التي تنير هذا الأفق المظلم، وتبعث الأمن في النفس المضطربة، وتفتح أبواب الرجاء من فرج الله.. لقد أصبح ابتلائي الآن أشد من ذي قبل، حيث وجدت نفسي أهيمُ في ظلمة الليل الداجي، ولجّة البحر السحيق، على الخط الحدودي الفاصل بين فسحة الحياة وقبضة الموت، وأنا أحمل بين يدي أمانة عظيمة، ووديعة غالية، هي ذلك الطفل الصغير بدمه ولحمه ومشاعره البريئة، وهو غافل عمّا يدورُ حوله، أحمل في عنقي أمانة رعايته وحفظه بما أحفظُ به نفسي.. يا
لها من وحشة ويا لها من مسؤولية, ويا له من بلاء!!!!
أراك هجرتني هجراً طويلاً وما عوّدْتنــي من قبل ذاكا
يعز علي حيـن أدير عيني أفتش في مكانــك لا أراكا
وما فارقتني طوعاً و لكـن دهاكَ من المصائب ما دهاكا
***
الاتكال على الله عز وجل وترك الأوهام في غمرة الأفكار المتلاحقة :
ويقوم الشيطان بدوره المعهود في إثارة الشكوك لـيزيد حـُزني، وليفتَّ في عزمي، ويثير التساؤلات الكثيرة: أين صاحبي؟! لماذا لا يرد على نداءاتي؟! لماذا خفّ صوتُه؟! إنه لا يجيدُ السباحة!! ربما أصابه الإعياء!! ربما غمره الموج!! فأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..
ثم يبدأ أنسُ بتساؤلاته البريئة: أين سنذهب يا عم؟!! أين السمكة الكبيرة التي صدناها؟! ثم تتصاعد حدّة الأسئلة مع افتقاد أبيه، ومع الإرهاق والتعب فيسأل عن والده: أين أبي؟! لماذا لا أراه؟!! أريد والدي، ثم يبكي ويدفعني بيديه وقدميه ليحرر نفسه من قبضة هذا الرجل الذي لم يألفه بعد.
لم تكن تساؤلات أنس مجرد استفهامات عابرة لمن هو في مثل حالي لقد كانت كالنصال الحادّة التي تنهش في فؤادي، وأنا أصارع الموت، وأسير نحو المجهول المرعب، وكانت كالسياط المؤلمة التي تسلخ جلدي، وأنا أشعر بتمام مسؤوليتي عمّا حدث، وكانت كالكابوس المزعج الذي تتمنى أن تستيقظ منه لتجدك على مُتّكأ السلامة أو سرير الدّعة، يا الله!! ما أصعب الموقف !! فأمامي مهمة تنوء بحملها الجبال الرواسي، فهل أتمكن من قطع هذه المسافة الطويلة أم تعتريني فيها الأخطار المترصّدة؟ إعياء منهك، أو أسماك قرش تدور أو موج يهتاج، أو عارض آخر، ويلتفت قلبي إلى الخلف فيكاد يتقطّع على الشيخ ما حالُه!! يا ترى هل نلتقي أم أن تلك اللحظات كانت آخر سطر في دفتر ذكرياتي معه!!!
وفي غمرة الأفكار المتلاحقة أيقنتُ أن لا منجى إلا بالاتكال على الله عز وجل وترك الأوهام، والخروج من هول الصدمة إلى العمل الجادّ، والسعي الحثيث في بذل الأسباب للوصول إلى الشاطئ البعيد في أسرع وقت ممكن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والتبليغ للبحث عن الشيخ، إن كتب الله له السلامة، معتمداً على الله، ثم على مهاراتي في السباحة الطويلة، وأدركت أن من حكمة الله تعالى أن أبتعد عن الشيخ لأباشر العمل في هذا الاتجاه..
حاجة الإنسان إلى الصلة بالله تعالى في اللحظة التي يعاني فيها من الضعف :
بدأت رحلة العودة إلى الشاطئ متخذا معلما كمنارة
ابتدأت بتحديد أقرب المسارات إلى الشاطئ، فالبحر الداجي يمتد خلفي في مداه السحيق، وهناك الشاطئ المضيء تلوح لي فيه من بعيد سراب من عقود متلألئة لأنوار الطريق الساحلي لشاطئ نصف القمر، وأرى أمامي مَعلماً ممتداً في رأسه إنارة لم أستطع تحديد معالمه نصبت وجهي لذلك المعلم الممتد، وابتدأت على بركة الله في السباحة الطويلة الشاقة، لقد أُرهق الطفل من ذلك الوضع المتعب، وبدأ يعاني من القلق والخوف والوحشة، فتارةً يغفو، وتارةً يصحو فزعاً، وتارةً يثير التساؤلات البريئة، وكثيراً ما يبكي ويسأل عن أبيه، وأنا أواصل السباحة الجادّة، وأدعو الله عز وجلّ أن يمنّ علينا بالسلامة، وأكرر دعاء يونس عليه السلام ودموعي تختلط بقطرات البحر الثائرة حولي: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين".
وفجأة يصرخ أنس ويصيح، أسأله ما بك؟!
قال: سقطت حذائي. أريدُ حذائي.
فقلت: يا أنس نحن في مأساة، وأدعو الله أن ينجينا مما نحن فيه من كرب، فقال: أريدُ حذائي!! قلت له: أما حذاؤك فقد سقط في البحر، ولن نعثر عليه. وسنشتري لك أفضل منه. فاستمر في البكاء. فما كان منّي إلا أن خلعت الحذاء الآخر ورميته في البحر.. فسكت الطفل ولم أكلف نفسي معرفة ما إذا كان ذلك اقتناعاً أم خوفاً!..
وأدركت أن وقت صلاة العشاء قد حان منذ فترة، وكان لزاماً علي أن أصلي، وكيف لي أن أتأخر عن أداء الصلاة التي لم يُسمح للمسلم أن يتركها حتى في أحلك الظروف. بل ما أحوجني للصلة مع الله في هذه الحالة التي أشهد فيها مظاهر ضعفي إلى قوة الله، وقلة حيلتي إلى حوله وطوله، وضيق حالي إلى سعة فضله ومنّه، وعجزي إلى قدرته، وخوفي إلى أمنه، وشتات أمري إلى حفظه ورعايته.
أثر لحظات الضعف و حالات البلاء في إيقاظ القلوب الغافلة :
إن للحظات الضعف وحالات البلاء أحياناً جميل الفضل، وعظيم الأثر في إيقاظ قلوبنا الغافلة، وتزكية نفوسنا من غبار المعصية وران الغفلة.. تماماً مثلما تزكي النار الذهب من العوالق الرديئة، إنها لحظات نفيسة تتبدّى فيها الدنيا على حقيقتها الزائفة، وقد سقطت أقنعتها، وخرجت من مساحيقها المضلّلة، إنها لحظات نفيسة تبيّن لك كم كنت معرضاً عن الله، وكم كنت مفرطاً في جنب الله، وكم كنت تعمل للدنيا كأنك تخلد فيها، وكم كنت تلهو عن الآخرة كأنك لن تبلغها.
نويت الوضوء – كما علمني الشيخ- ومسحت ما أستطيع أن أمسح من مواضع الوضوء، ورفعت الأذان، وأن أتذكر أني - وإن كنت لوحدي - نقطة ضائعة في هذا المدى المظلم فإن الله يسمعني.. والحيتان تسبّح من حولي.. وأجر المؤذن يبلغ ما بلغ أذانُه، ثم أقمت الصلاة وصليت صلاة العشاء في وقت متأخر، ولكني أظن أنها أخشع صلاة صليتها في حياتي.. إنها صلاة الخائف الذليل.. صلاة الضعيف الذي ينوء بأمانة عظيمة، صلاة المضطر المكروب، صلاة الغريب المستوحش، صلاة المودّع الذي يوشك أن يغيب عن هذه الدنيا الفانية الرخيصة، دنيا اللهو والغرور واللعب.
وأستأنف سباحتي الشاقة والطفل ينام على كتفي الأيمن تارة، وعلى الأيسر تارة أخرى.. ويدور أمامي شريط حياتي.. وأتذكر كم من ذنوب خلت.. وغفلات ألهت.. وإعراض صدّ.. لقد أدركت في ذلك الموقف الخطأ الفادح في موازين اهتماماتنا، وفي جهل نظرتنا لواجبات الدنيا وأعمال الآخرة.. لقد تحقق لي حينها بأننا مشدودون لهذه الدنيا، مرتهنون بجاذبيتها ومحسوساتها، بها نفكر، وفيها نوالي ونعادي، ولها نبني ونخطط مشدوهين عن الآخرة بحقائقها العظيمة، ومنازلها الخالدة الأبديّة، كم هي هذه الدنيا في الآخرة وزناً وزمناً ومنازلاً ؟!! ما مقدار مكثنا في كلٍ منهما؟!! هل تفكرنا في ميزان الله البيّن:
﴿ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾
[سورة الضحى:4]
صدق اللجوء لله عند الوقوع بالمصائب :
وتطوف بي أهم ذكرياتي ومراحل حياتي، وحفظ الله لي وكان من بين ما برز أمام فكري قصة تعلّقي وأنا صغير على أحد الأسياخ الحديديّة لسور السطح المُشرف على الشارع من ارتفاع شاهق، وقد بقيت معلّقاً بطرف ثوبي موشكاً على السقوط الحُرّ المميت لفترة من الزمن لولا أن وفقني الله بعد معاناة للتخلص دون مساعدة أحد، إنها أسهم القضاء التي يقدرها الله فتخطئ الشخص بأمر الله حتى يأتيه السهم المسوّم من عند ربّك:
﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾
[سورة النحل:61]
عدت للأذكار والدعاء، وانصهر قلبي بين يدي الله في هذا الموقف الحالك الذي ذكره القرآن مثالاً على الاضطرار، وصدق اللجوء لله حتى من الكفار المشركين أولي القلوب المتحجّرة حينما تذيبها نار الكرب فتلين لله، وتعترف بربوبيته، فترجو فرجه، لقد دعوت الله بكل قلبي دعاء المضطر إلى رحمته الراجي لاستجابته:
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾
[سورة النمل:62]
بذلت أقصى الجهد في سباحتي باتجاه المعلَم الذي كنت أراه من بعيد، ثم اكتشفت بعد ساعتين من الجهد والتعب أنني لم أحقق أي تقدم فالمسافة بيني وبين ذلك المعلم تبدو لي ثابتة كأنها لا تتغير، وشعرت بأن الموج المعاكس – رغم ضعفه- قد كان يؤخر تقدمي نحو المعلم، أحسست بالهمّ وضيق الحيلة فبدأت أناجي ربي بصوت مرتفع، بدأت أراجع نفسي متسائلا: هل ربي راضٍ عني أم غاضب ؟؟!!
الذكر والدعاء أعظم ما يرافق الإنسان في الظلمات :
وعدت للسباحة الجادة بعد أن تجدّد عزمي، وكنت أنظر إلى السماء فأرى النجوم على غير ما رأيتها من قبل فكأنها تشجعني بوميضها، وتسليني بثباتها، فسبحان من سخرها، وأنظر يميناً وشمالاً لعلي أرى أحداً، أتساءل هل سيتحرك خفر حرس الحدود للبحث عنا ؟؟ وأجيب على نفسي بأن ذلك مستحيلاً لأني لم أترك اسمي لديهم، ولم أركب البحر من بوابتهم!! ولقد يخيل إليّ أحياناً – في غمرة الأفكار- رؤية بعض القوارب تمر أمام عيني، ثم ما تلبث في ثوان معدودة أن تضمحل كالسراب العابر والطيف الوامض لأبقى في واقع يفيض بالخطر!!
قررت التركيز على السباحة الجادّة، والذكر، والدعاء، وكان يقيني بالله يزداد في النجاة، لأني أدركتُ أنّي بدأت أحرز تقدماً نحو هدفي، وشعرت بالحماس، وبدأت أشمُّ رائحة النجاة، و ذرات جسمي تتلهف في أعظم درجات الشوق لملامسة تراب الأرض، والاستلقاء على أديمها في أمن وسلامة تماماً مثلما يرتمي الابن على صدر أمّه الرؤوم، يستنشق عبيرها، ويتدثر بحضنها، ويتدفأ بحنانها..
ولا تجزع إذا أعسـرت يومـاً فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تظنن بربـك ظـن سـوءٍ فإن الله أولى بـالـجـمـيل
وإن العسر يتـبـعـه يسـار و قول الله أصدق كـل قـيل
فلو أن العقول تسـوق رزقـاً لكان المال عند ذوي العقـول
***
المفاجأة التي وقعت للرجل و هو في عرض البحر مع الطفل الصغير :
صاح أنس سمكة سمكة
وأثناء هذه المرحلة المستبشرة يستيقظ أنس – ونحن ربما بعد منتصف الليل - ليصرخ وهو يؤشر للخلف ويبكي ويصيح: سمكة ... سمكة .. سمكة..
توقفت عن السباحة، سألته: أي سمكة ؟؟؟
فقال: هنا سمكة كبيرة يا عم خلفك ..
فلا تسألني ما الذي حدث في كياني من خوف ورهبة عندما أدركت أن ما يقوله الطفل قد يكون حقّاً.. ولقد كنت أخشى ما أخشاه حينها هو اقتراب سمك القرش المتواجد في الخليج، والذي ستكون به نهايتنا حتمية في أقسى صورها وأعنف أحداثها..
لم يكن مني إلا أن همست للطفل أنس أن يسكت، وبدأ الوسواس يراودني، وبدأت أفقد قواي ليذبل أملي في النجاة، بعد أن بدأت أرى الفرج، لقد كنت حينها أنتظر متى يشرع ذلك الشبح البحري الجامح في تمزيق أجسادنا الضعيفة دون هوادة، لقد كنتُ أشعر بدنوّ أنيابه عند أقدامي، وتلاحقني خيالات مرعبة، فو الله لقد بلغ بي الخوف مبلغه، ولم أجد من حيلة إلا أن أدعو الله بصوت خافت وأردد " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .. أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق، أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما أجد وأحاذر" .. إلهي . لا أريد أن أموت هذه الميتة، لا أريد أن يتمزق جسمي، وبدأت أبكي وأردد :" لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " ..
يا مـن تـحـل بـذكـره عقد النـوائب والـشـدائد
يا من إليه المـشـتـكـى وإليه أمر الخلـق عـائد
يا حـــي يا قـــيوم يا صمد تنزه عن مـضـادد
أنت الرقيب على الـعـباد وأنت فــي الملكوت واحد
أنت المعـز لـمـــن أطـاعك والمذل لكل جـاحـد
إني دعوتـك والـهـمــوم جيوشها نحوي تطـارد
فافرج بحولك كـربـتــي يا من له حسن الـعـوائد
فخفي لطفـك يسـتـعـان به على الزمن المعانــد
أنت الميسر والـمـســبب و المسهل و المسـاعـد
يسر لنـا فـرجـــاً قـريباً يا إلهـي لا تـبـاعـد
كن راحمي فـلـقــد يئست من الأقارب والأباعــد
***
توهم الصغير رؤية سمكة تسبح في الماء و الرعب الذي انتاب الرجل :
مرت أكثر من عشر دقائق ونحن في سكون وهدوء. لا نكاد نتحرك ولا نتحدّث لئلا يسمعنا هذا القرش الفاتك، وبعد تردد قررت أن أواصل مسيري، وأنه ليس لنا إلا ما كتبه الله، ولكن القوى خارت، والعزائم هانت، والحماس ضعُف، وأثناء سباحتي المتوجّسة يصيح أنس مرة أخرى مثل السابق ويقول: السمكة السمكة!! .. توقفت فوراً وقلت له: أين هي ؟؟ فقال: هنا يا عم عند أقدامك، هنا عاودني الخوف، وتملكني الفزع مرة أخرى، فتوقفتُ وشرعت أردد الأدعية، وبدأت السكينة تعلوني وأنا أتأمّل، فلو كانت سمكة قرش لما منحتنا كل هذه الفرص، وعاودت السباحة، فصرخ الطفل أنس مردداً: ( السمكة ... السمكة ) وهو يبكي، هنا أدركت أن الأمر متعلق بسباحتي، فسألته أثناء توقفنا هل يراها؟ فأجاب: لا!!.. ثم سبحت قليلا فصرخ: السمكة السمكة.. عندئذٍ أدركت أن أنس كان يرى قدمي وهي تتحرك أثناء السباحة فيحسبهما زعانف سمكة القرش التي توشك أن تلتقمنا.. فتملكتني ضحكة مكظومة يلجمها ماء البحر، ويحاصرها الكرب من كل مكان، ولكن عادت إليَّ السكينة بفضل الله، وهوّن الله عليّ الموقف، فواصلت السباحة في نشاط وقوّة وإصرار، واستعصمت بالله، واجتهدت في المناجاة، ومع مرور كل هذه الساعات من الليل شعرت بأني أحرزت تقدماً جيداً في الاقتراب من ذلك المعلم، وأما صاحبي أنس فهو يصحو وينام وقد بلغ به التعب مبلغه، والله يعلم في تلك الساعة ما كنتُ أعاني من الإرهاق المبرّح، والعطش الشديد، ولكني لم أكن أفكر بالاستسلام ما دمت قادراً على العطاء، وما دام لي عين تطرف وقلبٌ يخفق..
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكـل مـا يتـوقــع
يا من يرجى للشـدائد كـلـهـا يا من إليه المشتكى والمـفـزع
يا من خزائن رزقه في قول كـن امنن فإن الخير عندك أجـمــع
مالي سوى فقري إلـيك وسـيلة فبالافتقار إليك فـقــري أدفـع
مالي سوى قرعي لبابـك حـيلة فلئن رددت فـأي بـاب أقــرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسـمه إن كان فضلك عن فقيـرك يمنع
حاشا لجودك أن تقنِّط عـاصـياً الفضل أجزل والمواهب أوســع
***
ركنا النجاة هما الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأرباب :
إن الأسباب لا تفعلُ شيئاً بذاتها وإن اجتمعت، وإنما يتحقق نفعها إذا أراد الله الحيُّ القيّوم سبحانه وتعالى، فلا يُغني حذرٌ من قدر، ولكن الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأسباب هما ركنا النجاة بإذن الله، فكم من سبّاح خبير غرق في شبر ماء.. وكم من رحّال مجرّب تاه في الصحراء ومات من العطش، وأعرف شخصاً سباحاً وصياداً ماهراً ذهب في أحد الليالي بقاربه داخل البحر من أجل الصيد، وقد ابتعد بعيداً كعادته عن الشاطئ، وحيث أنه كان لا يغيب عن بيته أكثر من يوم وليلة فقد افتقده أهله بعد أن غاب ثلاثة أيام بلياليهن، وقاموا بإبلاغ حرس الحدود، والذي اجتهد في البحث عنه، لكنهم لم يعثروا عليه إلا بعد أسبوع من فقدانه، بعد أن استدلوا بقاربه الذي وجدوه على وضعه الطبيعي، وكان مثبتاً بمرسى داخل البحر ولم يعثروا على صاحبه إلا بعد بحث مضن، وقد وجدوه ميتاً في ظرف غامض لم يُعرف، فلم يكن القارب منقلباً ولم يتعطل، وقد هلك أحد السباحين في مسبح إحدى جامعاتنا بسبب شدّ عضلي في فخذه أعجزه عن الحركة، فوجدوه جثته طافية على سطح الماء، فسبحان الله مسبب الأسباب، ومقدّر الأقدار، الفعال لما يريد.
وأذكر أني ذهبت في ليلة بالقارب وحدي ودخلت داخل البحر من أجل الصيد والاسترخاء، ولكن لم تكن المسافة بعيدة جداً عن الشاطئ، فحصل أن نفذ وقود المحرك ولم يكن وقتها موجود معي أجهزة لاسلكية تربطني بخفر حرس الحدود، فاضطررت أن أرمي المرسى في البحر، وبدأت بالسباحة نحو الشاطئ، وعندما قطعت من الوقت تقريباً ثلث ساعة تذكرت أنه يوجد جالون فيه وقود في أحد صناديق القارب، وكنت متيقناً من وجود الجالون، ولكن لست متأكداً من وجود الوقود، وهذا ما جعلني أحتار كثيراً هل أعود إلى القارب للتأكد من وجود الوقود أم أستمر في سباحتي نحو الشاطئ؟ وبعد تردد رأيت أني إلى القارب أقرب من الشاطئ مع أني سبحت مسافة لا تقل عن ثلث ساعة، لكني وجدت أن الفارق كبير بين المواصلة إلى الشاطئ أو العودة إلى القارب، وقد تستغرب أيها القارئ لماذا لم أتأكد من وجود الوقود قبل أن أبدأ السباحة إلى الشاطئ ؟!!!!! فسبحان من أعمى قلبي، فلم يخطر على بالي إطلاقاً وقتها أنه كان يوجد جالون وقود، وعندما عدتُ إلى القارب وفتحت الصندوق فإذا بالجالون مليء بالوقود فقلت: سبحان الله .. والحمد لله ..!!!، علماً أنه لست أنا من قام بملء الجالون بالوقود بل كان أحد زملائي ولهذا قد تكون وسائل النجاة قريبة منك ولكن لا تصل لها لأي سبب، ولهذا فإن الأسباب الماديّة تفتقر لتأثيرها إلا إذا أراد المُسبّب سبحانه وتعالى أن تعمل.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الشخص وحده، لأنه لا يعلم ما الذي سيحدث له من ظرف طارئ مثل مرض، أو غيبوبة، أو ظرف مفاجئ، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( الراكب شيطان ، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب))
[الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده]
ولقد كان من أعظم ما رافقني في تلك الظلمات هو الذكر والدعاء، وهي العبادة الرفيع شأنها، الخفيف حملها، العظيم فضلها، الكبير أثرها، فبها تطمئن القلوب، وبها تُطرد الشياطين، وتحضر الملائكة:
﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾
[سورة النمل:62]
فرحة النجاة و السلامة :
خرجت من البحر وألقيت بجسدي المنهك على الشاطئ
أما صاحبي أنس الصغير فلا حراك.. ولا أدري هل دخل في نوم عميق أم في غيبوبة تامة!! وفي اللحظة التي لا أزال أصارع فيها الأمواج، وأخطو نحو الشاطئ بمجاديف الإعياء والتعب والظمأ، ينكشف ستار الليل بأنوار الفجر الأول، ويتسلل إلى سمعي صوت الأذان لصلاة الفجر من يوم الجمعة "الله أكبر" "الله أكبر" "أشهد أن لا إله إلا الله".. كلمات هزّت كياني، وحركت أشجاني، فكأنها تمد يديها لي لتنتشلني من لجة الموت إلى ضفة الحياة.. كلمات جعلتني أستصغر هيبة البحر وغضبة البحر أمام كبرياء الله، وعظمة الله، فالله أكبر من كل جبروت، والله أكبر من كل قوّة، والله أكبر من كل مخلوق، والله أكبر من كل تحدٍّ، كلمات أسبلت معها دموعي، واهتز صدري بالنشيج المزلزل، واندفقت من صدري تسبيحة عميقة من بين أنقاض الهمّ والوصب، لقد بدأت معالم الشاطئ تتمثّل لي، وبدأت أرى معها أملي الذي ساهرني طوال الليل حيّاً قريباً في صورة فجر مشرق ويوم جديد، توضأت وصليت، واستدار فكري إلى الخلف أحاولُ أن أتخيّل حال صاحبي في عُمق البحر، ما حالُه؟ ما مصيره؟ أحيٌّ فأرجوه أم ميّت فأدعو له؟! كيف أمضى ليلته؟!
ومع بزوغ الشمس اقتربت من الشاطئ .. وأدركتُ أني على وشك النجاة.. أصبحت أردد: الله أكبر .. الله أكبر .. لك الحمد إلهي .. لك الشكر ربي .. لك الثناء.. لك الفضل من قبلُ ومن بعد..واقتربت قليلاً قليلاً.. وشعرت بطرف قدمي تلمس باطن البحر.. سبحت لدقائق.. مددت يديّ لألمس الأرض في المياه الضحلة.. يا الله ما أعظمها من فرحه، إنها فرحة النجاة.. فرحة السلامة.. فرحة تعجز أمامها الكلمات.. وتتضاءل أمامها الأوصاف.. فرحة لا ينغصّها إلا ذكرى رفيقي الذي خلّفته ورائي.. حاولت أن أقف.. فخانتني رجلاي.. ولم أستطع الوقوف.. فأكملتُ المسافة زحفاً على يديّ وركبتيّ.. وأنس مستلقٍ على كتفيّ.. وخرجتُ من البحر إلى الشاطئ الرمليّ فألقيتُ بجسدي المُنهك مستلقياً على ظهري.. وقد كتب الله النجاة لي ولأنس المنقطع بأعجوبة بعد سباحة طويلة امتدت من بعد صلاة عصر يوم الخميس إلى طلوع الشمس من يوم الجمعة .
البحث عن الشيخ الجليل بعد إنقاذ الرجل و الطفل :
لقد تبيّن لي بأن ذلك المعلَم ما هو إلا برج حديدي في سكن لعمال إحدى الشركات التي تقع بين الطريق الذي يربط شاطئ نصف القمر ومنطقة العقير، وهو ميناء الإحساء القديم.. ولقد حُدت عنه بفعل الموج، وأصبح بيني وبينه مسافة يستحيل لمن في وضعي قطعها.. إنها منطقة مهجورة.. بعيدة عن الأنظار.. نائية عن حركة المسافرين وجلوس المتنزهين.. والوقت صباح يوم الجمعة، وهو وقت تقلُّ فيه حركة الناس.. لقد أدركت حينها بأن المعاناة لم تنته بعد، وأنه لابد لي أن أقضي فترة طويلة لأستعيد فيها قواي، أو أن تبدأ حركة الناس ليزيد احتمال وصول من يسعفنا.. وما هي إلا لحظات فإذا بي أسمع صوت سيارة مسرعة قادمة إلينا.. لينزل منها سائقها وهو ينظر إلينا باستغراب ودهشة متسائلاً: ما الذي جاء بكم إلى هذا المكان؟ قلت له: كنا غرقى من عصر أمس الخميس... فبكى من شدة الفرح، وردد كلمات كثيرة فيها الحمد والشكر لله على نجاتنا، بعد ذلك قام صاحب السيارة بحملنا بكل مشقة حتى أركبنا السيارة.. وهو متعجب مما حدث لنا.. وذكر لنا بأنه ظننا من دواب البحر ولم يكن يتوقعنا من البشر حين رآنا من بعيد نزحف من البحر نحو الشاطئ.
لقد سخر الله لنا هذا الرجل ليساعدنا ونحن أحوج ما نكون إلى يد تساند، وشربة ماء تسدُّ الرمق، بعد أن أخذ منا العناء والظمأ والجوع كل مأخذ.. وقد أخبرنا بأنه يأتي لهذا المكان في الأسبوع مرة أو مرتين.. وهو يمارس هواية الصيد باستخدام الأقفاص وهي ما يُسمى عند أهل المنطقة الشرقية بـ ( القراقير ) وهو عبارة عن شبك مصنوع من السلك الحديدي وله فتحة على شكلٍ حلزوني، حيث يضع الصياد فيه طعاماً ليكون طُعماً للأسماك..
ذهب بنا السائق المنقذ إلى مركز خفر حرس الحدود بعد أن مشى بنا مسافة طويلة، وعند وصولنا وجدناهم في حصتهم الصباحيّة في استعراض عسكري، فاستأذن السائق من بوابة المركز وأدخلونا إلى غرفة الإسعاف.. وأحضروا لنا الماء.. فلا تسأل عن مذاقه بعد طول العناء.. وقاموا بتغسيلنا، ثم وضعوا لي وللطفل المغذي، وحضر لنا مسرعاً في أقل من دقائق قائد المركز ومعه بعض الجنود.. وكان رجلاً طيباً خلوقاً، تفاعل معنا بشكل كبير وقد أخبرناه بالخبر.. وطلبنا منه أن يفعل ما في وسعه لإنقاذ صاحبي، فأصدر أمراً على الفور لجميع الدوريات البحرية وما حولها من الدوريات الموجودة داخل البحر بالتحرك فوراً للبحث عن صاحبي.. وأمر القائد الدوريات أن تتفرق إلى عدة مجموعات تنطلق في أكثر من موقع نظراً لعدم قدرتي على تحديد موقعنا السابق، وقد اقترحت أن أشارك في عملية البحث غير أنهم أشاروا علي بالبقاء نظراً لمعاناتي من الإجهاد، و قد رجّح عدم مشاركتي إيثاري البقاء إلى جانب الصغير أنس.. وجلس القائد يسليني، ويحاول أن يخفف عني المصاب لما رأى علي من الخوف والقلق على مصير صاحبي أبي أنس، وبعد أن تعرف على اسمه وشخصيته عرفه جيداً، وبدأ عليه القلق مثلي، وقرأت في عينيه الخوف بأن صاحبي لن ينجو عندما علم أنه لا يجيد السباحة، ورأى استحالة صموده كل هذا الوقت، وقد أخبرني القائد على ذمته بأنه قبل أن يستيقظ لصلاة الفجر ليوم الجمعة سمع في المنام منادياً يقول له: قم .. فهناك بعض الغرقى في البحر اذهب فتول أمرهم .. ويقول: لقد نهضتُ مفزوعاً من هذا الحلم مع أذان الفجر وقلت إن هذا من الشيطان ..!!
تجديد البحث عن الشيخ الفاضل و العثور عليه :
بحث خفر السواحل طويلا عن صاحبي
لقد كان القائد يتابع جهود البحث والتحري مع الفرق المتحركة، و دبَّ اليأسُ إلى أعضائها، وكادوا يجمعون على أن صاحبي لا يوجد له أثر.. وأوصوا باستدعاء فرقة الضفادع البشرية للغوص، والبحث عن جثته، ولكنّي بيّنت للقائد بأن صاحبي كان متعلقاً بجالون وسترة نجاة، فإن جزمنا أنه قد مات فأين هي السترة والجالون الذي كان يمسك بهما؟!! فقال لي مباشرة: صدقت.. هذه علامة مؤكدة.. فتحدث بالجهاز اللاسلكي لجميع الدوريات البحرية بأنه لا عودة إلى المركز إلاّ ومعهم صاحبنا حياً أو ميتاً، أو بإحضار الجالون والسترة التي كان يمسك بهما، اقترحت على أنس أن نذهب نبحث في البحر فبكى خوفاً من هذا الاقتراح وقد عانى من البحر ما عانى، وذكرني بقول ابن الرومي في وصف البحر:
وأما بلاء البحر عندي فإنـــه طواني على روع مع الروح واقب
وأيسر إشفاقي من الماء أننــي أمر به في الكوز مرّ المجــانب
وأخشى الردى منه على كل شارب فكيــف بأمْنيِه على كل راكب؟
***
وأثناء ما كنا نتحرى هذه الاتصالات التي تأتي من فرق الدوريات وبعد بحث وجهد من قبل الدوريات البحرية جاءنا البشير عن طريق الجهاز اللاسلكي أن صاحبنا قد تم العثور عليه وهو ممسك بطوق النجاة وبالجالون الذي كان يحمله، فكان أحسن وأسعد خبر تلقيته في حياتي، فتذكرت على الفور قول الله تعالى:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ* ﴾
[سورة الأنبياء:88-87]
نعم فإنه يوجد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من سينجيه الله بصورة عجيبة مثل نجاة صاحبي الذي نجا وهو لا يجيد السباحة إطلاقاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد أخبرني بعض من قاموا بإنقاذه أنهم عندما رأوه ظنوه ميتاً لأنه لا يتحرك، وكان على نفس الوضع الذي تركته عليه، كان نائماً على ظهره، وممسكاً طوق النجاة بيد والجالون باليد الأخرى ..
استقبال الشيخ الجليل و سجود الشكر لله تعالى :
خرجت أنا والقائد وبعض الموجودين في استقبال الشيخ الجليل، وكان أول ما سأل عنه صاحبي عند نزوله إلى أرض الشاطئ عن اتجاه القبلة، وخرّ لله ساجداً لله وشاكراً لفضله.. وكنت قد نسيت سجود الشكر ولم يخطر على بالي هذا الأمر، وعندما رأيت صاحبي سجدت معه حامداً الله سبحانه وتعالى على فضله وكرمه وإحسانه، ثم عانقته أنا ومن حضر هذا الموقف المؤثر، وسلم على ابنه أنس، فللّه ما أروع مشهد اللقاء بعد الفراق المرّ. ولله ما أجمل احتضانه لابنه الصغير وفرحته بسلامته، ولله ما أقرّ عيني بأن جمع الله بينهما بعد أن كدت أتسبب في كارثة كبيرة لهذه العائلة الكريمة. إنها فرحة مُشعلة بالدموع، مُلفّعة بمشاعر الحبّ، محاطة بأحاسيس الشكر والحمد لله عزّ وجلّ.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألاّ تلاقيــا
إذا اكتحلت عيني بعينك لم تزل بخير وجلت غُمة عن فؤاديا
***
أوصلتنا دوريات حرس الحدود إلى سيارتي في مدينة الملك فهد الساحلية في الشاطئ الآخر، وركبت أنا وصاحبي وابنه أنس، وكان للحديث شجون وتعجب من هذه الرحلة الخطرة، وقمت بإيصال صاحبي وابنه أنس إلى منزله، وكان حضوره مفاجأة لأقاربه وأصدقائه وجماعة مسجده، الذين قضوا ليلتهم بحثاً عنهُ في كل مكان، ولم يعثروا له على أثر، وأما أنا فلم يفقدني أحد لأني كنت أعزب وأغيب عن البيت بالأيام، وهو أمر معتاد في منزل والدي .
النجاة من المحنة الكبرى :
وصلت إلى المنزل مع وقت خروج والدي حفظه الله، حيث كان يخرج مبكراً إلى صلاة الجمعة، ورآني أثناء خروجه من المنزل وأنا بلباس البحر، فبادرته بالسلام وطفقت أشرح له القصة في حماس لأقدم له المفاجأة التي حدثت لي في البحر فانتهرني بشدة متسائلاً: كيف أكون في مثل هذا الوقت قادماً من البحر وأنا أرتدي الملابس الرياضية وداخل إلى المنزل والناس ذاهبون إلى أداء صلاة الجمعة؟ فأردت أن أشرح له ما حدث، ولكنه تركني وقطع علي طريق الحديث، صليت الجمعة، ودخلت بعدها في نوم عميق بعد يوم وليلة من السهر والخوف والجوع والظمأ، وسجلت قصتنا في محاضرة مسجلة للشيخ سلمان العودة وكان عنوانها: ( فقه إنكار المنكر ).. مجيباً على سؤال عن صحة الأنباء التي تتحدث عن وفاة صاحبي أبي أنس، وأنه قد مات غرقاً في البحر، فكان جواب الشيخ أنه لا صحة لهذه الأنباء، وأنه لا يعلم إن كان هناك أخبار جديدة غير ما سمعه.. ثم ذكر أن الذي يعرفه أنه قد تعرض لحادث في البحر هو وابنه أنس ومعهم شخص آخر وقد نجوا بأعجوبة ثم ذكر القصة مختصرة ..
وأذكر أن صاحبي سأل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله عن وضوئنا في البحر إذا لم يغمر الماء وجوهنا فقال له الشيخ: لا عليكم حرج ووضوؤكم صحيح:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾
[سورة التغابن:16]
خاتمة و توديع :
هذه هي قصتنا في البحر على حافة الموت. بعيداً عن المبالغة والخيال وقد أعرضت عن بعض التفاصيل خشية الإطالة..
وكلما خطرت ببالي تساءلت هل صحيح أني نجوت من تلك المحنة الكبرى؟! وهل صحيحٌ أنَّ صاحبيّ الآن ينعمان بفسحة العُمر مثلي؟!! هل صحيحٌ أن ذلك الطفل الصغير الذي رافقني في رحلة السباحة الطويلة أصبح اليوم رجلاً يساند أبويه ويقوم بواجبه لخدمة دينه ومجتمعه؟!!
أسأل الله أن يجعل تلك الزيادة في أعمارنا زيادة خير وبركة وبر وإحسان.. وأن يرزقنا شكر نعمته.. وحسن عبادته..
والحمد لله رب العالمين
http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=11515&id=1249&sid=1594&ssid=1595&sssid=1596
الإعجاز العلمي
ندوات إذاعية - إذاعة دار الفتوى - الإعجاز العلمي - الحلقة 04 - 30 : مواقع النجوم. لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2003-10-29/ بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة : المذيع: اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، آمين يا أرحم الراحمين. رحلة الإسراء والمعراج أخوة الإيمان والإسلام، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، حلقة جديدة مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، مع كتاب الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، لقد كانت رحلة المعراج معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، فشاهد الأنبياء، وكلّمهم، وكان ذلك في السماء، إلا أننا حينما يذهب رواد الفضاء بعد ألف وأربعمئة سنة من ذلك التاريخ، وبمركبات فضائية مجهزة نرى العجب العجاب، فتزداد معجزة النبي e بهاء، ويزداد المتأمل إعجاباً، تكلمت فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي في كتابك هذا عن ظلمات في الفضاء، وتكلم عنها الشارع الحكيم في كتابه، فماذا رأيتم؟ الحق دائرة يتقاطع فيها أربعة خطوط : الأستاذ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. قبل أن أجيب عن هذا السؤال لا بد من مقدمة هي أن الحق دائرة يتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، وخط الفطرة السليمة، وخط الواقع الموضوعي، العقل الصريح أداة معرفة الله، والنقل الصحيح الوحيان- الكتاب والسنة- والواقع الموضوعي خلقه، والفطرة جِبِلَّة أودعت فينا، إذاً كل هذه البنود من أصل واحد، إنه الله عز وجل، والقاعدة أن الأصل إذا اتحد فالفروع متساوية فيما بينها. فالحق لا بد من أن يتطابق مع ما في القرآن الكريم وهو كلامه، مع قوانين خلقه، مع جبلة الإنسان، مع الواقع الموضوعي، هذا المنطلق يبيّن أن العلم كلما تقدم كشف عن جانب في القرآن الكريم. ظاهرة انتثار الضوء : ظلمة الفضاء كان هناك عالم من علماء الفلك في زيارة مركز من مراكز إطلاق المراكب الفضائية في بعض الدول المتقدمة، وهو في زيارة هذا المركز الذي ظلّ على اتصال مستمر بمركبة فضائية أُطلقت قبل زيارته، فإذا برائد الفضاء الذي على المركبة يتصل بمركز انطلاق المركبة، ويخبرها أنه أصبح لا يرى شيئاً! لقد أصبحنا عمياً!! لا نرى شيئاً، والغريب أن المركبة قد انطلقت في وضح النهار، وبعد وقت قليل تجاوزت هذه المركبة الغلاف الجوي، ودخلت في منطقة لا هواء فيها، وأصبح الجو مظلماً ظلاماً كلياً، فصاح هذا الرائد: لقد أبحنا عمياً، لا نرى شيئاً، ما الذي حصل؟ مركبة انطلقت في وضح النهار، وضح النهار في الأرض معروف، كل شيء مكشوف وواضح بأشعة الشمس، أو من دون أشعة الشمس، لكن هناك أصبح الظلام مسيطراً، ولا يرى هذا الرائد شيئاً! الذي حصل أن أشعة الشمس إذا وصلت إلى الغلاف الجوي تتناثر، بمعنى أن كل ذرة في الهواء تعكس على أختها بعض أشعة الشمس! فانتثار الضوء ظاهرة علمية، أساسها أن أشعة الشمس تنعكس على ذرات الهواء، وكل ذرة تعكس على أختها من أشعة الشمس شيئاً، في الأرض يوجد ظاهرة، أن هناك منطقة فيها ضياء وليس فيها أشعة شمس، فنقول فيها: الجو نهار، ونرى كل شيء، والشمس في بعض الأماكن نرى أشعتها، بينما في الفضاء الجوي لا هواء، أي لا انتثار للضوء، فالجو ظلام تام دامس، لا يرى في الفضاء الخارجي إلا قرص الشمس فقط، فحينما نظر هذا الرائد من نافذة المركبة رأى ظلاماً دامساً مطبقاً فصاح: أصبحنا عمياً، لا نرى شيئاً، هذه الحقيقة، أن الفضاء الخارجي ليس فيه هواء، وبالتالي ليس فيه انتثار ضوء. المذيع: هنا نريد أن نفسر حقيقة علمية، أنه لولا الغلاف الجوي لما كان هناك ضياء. الأستاذ: نعم هذا كلام دقيق، الآية الكريمة: ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [ سورة الحجر: 14-15] المذيع: هنا أتينا إلى القرآن الكريم الذي يفسر هذه الظاهرة العلمية. القرآن كلام الله عز وجل و إعجازه : فائدة الغلاف الجوي الأستاذ: نعلم إن الطيران اكتشف أخيراً، وما من أحد في عهد النبي e صعد إلى الفضاء، فهذه الحقيقة لا يمكن أن تُكتشف وقتها، فجاءت بها آية كريمة، الآن حينما سافر الإنسان إلى الفضاء، ورأى كيف أن الفضاء الخارجي فيه ظلام دامس مطبِق، تطابقت رؤية رائد الفضاء مع الآية الكريمة، هذا الكلام ليس كلام النبي عليه الصلاة والسلام، إنما هو كلام الله، ولعل أقوى دليل على أن القرآن كلام الله و إعجازه، فلذلك يقول الله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [ سورة فصلت: 53 ] وكأن هذه الآيات شهادة الله للناس أن هذا الإنسان الذي جاء بالقرآن إنما هو رسوله. الشيء الدقيق أيضاً هو أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما لم يشرح هذه الآيات، وحينما تركت للتطور العلمي إذاً أصبحت آيات القرآن الكريم معجزات مستمرة إلى نهاية الدوران. المذيع: الآن سننتقل إلى موضوع آخر، وما دمنا مع الفضاء، وهذه الأمور التي نراها في السماء. في الليل نرى نجوماً، وفي النهار لا نراها، وذلك لكثرة الضياء، ذُكِرت النجوم في آيات الله وكتابه العزيز: ﴿ فلا أقسم بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ [ سورة الواقعة: 75 ] فما هي هذه المواقع؟ ذُكِرت مواقع النجوم، ولم يذكر: لا أقسم بالنجوم مثلاً، لماذا؟ آيات الله في الكون : مواقع النجوم الأستاذ: أنا أعتقد أن هذه الآية لو قرأها عالم فلك لخرّ ساجداً لله من كلمة واحدة فيها، ألا وهي كلمة مواقع، ولكن قبل شرحها لا بد من تمهيد. بين الأرض والقمر ثانية ضوئية واحدة، أي إن الضوء يقطع المسافة بين الأرض والقمر والتي تصل إلى ثلاثمئة ألف كيلو متر في ثانية واحدة، لأن أعلى سرعة في الكون هي سرعة الضوء ثلاثمئة ألف كيلو متر في ثانية واحدة، فبين الأرض والقمر ثانية ضوئية واحدة، والإنسان عنده غرور شديد، فحينما وصل بمركبته للقمر قال: غزونا الفضاء، بين الأرض والشمس ثماني دقائق ضوئية، يوجد مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، يقطعها الضوء في ثماني دقائق، بين الأرض وأقرب نجم ملتهب للأرض أربع سنوات ضوئية! عظمة المسافة بين الكواكب طبعاً طالب ثانوي بإمكانه أن يحسب المسافة، لأن الضوء يقطع ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، ضرب ستين بالدقيقة، ضرب ستين بالساعة، ضرب أربعة وعشرين، باليوم ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين بالسنة، ضرب أربع بأربع سنوات، هذا الرقم كم يقطع الضوء، وأقرب نجم إلى الأرض. لو أننا نركب مركبة أرضية بسرعة مئة، قسمنا هذا الرقم على مئة كم ساعة؟ على أربع وعشرين كم يومًا؟ على ثلاثمئة وخمسة وستين، كم سنة؟ يتضح أننا نحتاج لنصل لأقرب نجم ملتهب إلى الأرض إلى خمسين مليون سنة، لو أردت أن تصل لأقرب نجم ملتهب إلى الأرض بمركبة أرضية تحتاج إلى خمسين مليون سنة. الآن نجم القطب يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية، كم سنة نحتاج؟ الأربع سنوات يحتاجون إلى خمسين مليون سنة! الأربعة آلاف مليون سنة، شيء مخيف، المرأة المسلسلة هذه المجرة تبعد عنا مليوني سنة ضوئية، أحدث مجرة اكتشفت تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية!. فلا أقسم بِمَوَاقِعِ النُّجُوم آية من آيات الله الدالة على عظمته و إعجازه : المرأة المسلسلة هذه المجرة، ولو فرضناها كوكباً كان في هذا المكان قبل عشرين مليار سنة، وأرسل أشعته للأرض، وبقي ضوء هذا النجم العملاق يمشي عشرين مليار سنة حتى وصل إلى الأرض، فرأيناه نحن، لكنه ينطلق بسرعة مذهلة، سرعة المجرات البعيدة مئتان وأربعون ألف كيلو متر في الثانية، فإذا كان من عشرين مليار سنة في هذا المكان، وسرعته مئتان وأربعون ألف كيلو متر في الثانية، أين هو الآن؟ ما الكلمة التي تعبر عن هذا المكان و ليس فيه صاحب المكان؟ الموقع، لو أن الله قال مثلاً: فلا أقسم بالمسافات بين النجوم ليس قرآناً، وليس كلام خالق الكون، لكن لأنه قال: عظمة الكون ﴿ فلا أقسم بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ [ سورة الواقعة: 75 ] النجم متحرك، تغير موقعه من موقع إلى آخر، انتقل لمكان آخر، أما حينما أطلق أشعته فكان في هذا الموقع وتركه، هذا الموقع انطلقت منه الأشعة نحو الأرض، وهذا ما رأيناه، من كلمة موقع وحدها يخر عالم الفلك ساجداً لله عز وجل: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [سورة الواقعة: 75-76] إذا كان خلق الله غير متناهٍ، فكيف بالذات الإلهية؟ الكون نظرياً له حدود، لأنه ما سوى الله، تعلمون أن الله عز وجل واجب الوجود، وأن ما سواه محتمل الوجود، يمكن أن يوجد على ما هو عليه، أو على غير ما هو عليه، أو ألاّ يكون موجوداً، هذا خلق الله يبدو لنا لا نهائياً. وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ آية أخرى من آيات الله الدالة على عظمته : الأبراج في السماء يوجد آية ثانية، أن الله عز وجل حينما قال: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾ [ سورة البروج: 1 ] هناك بروج في السماء، برج الجوزة، برج العقرب، وفي هذه البروج نجوم كثيرة، أحد هذه البروج برج العقرب، وفيه نجم صغير، اسمه قلب العقرب، هذا النجم أحمر متألق، شيء لا يصدق! بين الأرض والشمس مئة وستة وخمسون مليون كيلو مكتر، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، أي إن جوف الشمس يتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض! الآن هذا النجم الصغير قلب العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما!!! هذا معنى قوله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [ سورة فصلت: 53 ] المذيع: شيء مذهل، فضيلة الدكتور هذه المسافات وهذا الحجم الهائل. علم الله وخبرته لا نهاية لهما : فضل العلم الأستاذ: لذلك نقول نحن اصطلاحاً: مسافات فلكية، أرقام فلكية، إن أردنا أن نبالغ في شيء في الأرض نقول: رقم فلكي، شيء لا يصدق، هذا الإله العظيم يعصى؟ ألا يخطب وده؟ هل يستغنى عن منهجه؟ هل يتهم كتابه بالمبالغات وأن هذا الحكم لا يتناسب مع هذا العصر؟ إن علم الله وخبرته لا نهاية لهما، هذا معنى قوله تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [سورة الواقعة: 75-76] لو تعلمون، لذلك قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [ سورة فاطر: 28 ] نعمة قوة الإدراك وليس أحد غيرهم يخشى الله عز وجل، لذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، و يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل. والإنسان من دون علم يقترب من حياة البهائم، وفضل الله على هذا الإنسان أنه كرمه بالقوة الإدراكية، لولا هذه القوة الإدراكية لكنا أمثال مخلوقات لا تليق بنا. خاتمة و توديع : المذيع: في نهاية هذه الحلقة لا يسعنا إلا أن نشكر فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي لهذا الإيضاح، ولهذه العين المتأملة في هذا الكون العجيب، وفي السماء، والنجوم التي حدثتنا عنها، إلى حلقة قادمة بإذن الله تعالى، ورؤية علمية وقرآنية جديدة. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته والحمد لله رب العالمين
vendredi 28 avril 2017
آداب وأخلاق وفضائل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فقد وردت الأدلة من الكتاب والسنة في النهي عن التشبه بالكفار، قال -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية: 18، 19]. "فأخبر -سبحانه- أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على شريعة شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته، وأهواؤهم كل ما يهوونه وما هم عليه من الهدى الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويودون لو يبذلون مالًا عظيمًا لتحصيل ذلك، ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فمخالفتهم فيه أحسم لمتابعتهم في أهوائهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها" [1]. "ومنها قوله - تعالى -: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة: 149، 150]. قال غير واحد من السلف: "معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، فبين - سبحانه - أن من حكمة تنحي القبلة وتغييرها، مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذا اتُّبع في شيء من أمره، كان له الحجة مثل ما كان -أو قريب مما كان- لليهود من الحجة في القبلة" [2]. روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) [3]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأقل أحواله يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51]، فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك" [4]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ)) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ((فَمَنْ؟)) [5]. وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسِ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: ((وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ)) [6]. "ومشابهة بعض طوائف اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب، ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك، فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة أيضًا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بُعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة المنصورة وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسَأل الله المجيب أن يجعلنا منها" [7]. أهـ وأما الإجماع، فمن ذلك أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - وكذلك الصحابة والأئمة من بعده وسائر الفقهاء جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم فيما شرطوه على أنفسهم: أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، كسوة أو عمامة، أو نعلين [8].. إلى آخر الشروط. وروى الحافظ أبو الشيخ الأصفهاني في شروط أهل الذمة بإسناده: أن عمر - رضي الله عنه - كتب: أن لا تكاتبوا أهل الذمة، فيجري بينكم وبينهم المودة، ولا تُكْنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم [9]. ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: "من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة" [10]. وغير ذلك من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم. "والتشبه بالظاهر يقود إلى التشبه بالباطن؛ لأن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة، وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعوا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذاك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن اقتضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [المائدة: 51]" [11]. بل إن التشبه في الظاهر دليل على التشبه باطنًا، قال - تعالى -: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة: 118]. والحال شاهد على ذلك، فمن تزيا بزي أهل العلم والصالحين وجد من نفسه قوة على الاقتداء بهم، والابتعاد عن خلاف ذلك، والعكس أن من تزيا بزي السفهاء وأهل الفسق، سهل على نفسه متابعتهم وتقليدهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام" [12]. والتشبه منهي عنه وإن لم يقصده فاعله، فعلى سبيل المثال: لو حلق لحيته ولم يقصد التشبه بالكفار، فإن فعله تشبه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى)) [13]. كما يحصل التشبه وإن لم يكن من عمل الإنسان، ويمثل ذلك بالتشبيب، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ)) [14] فالتشبيب من فعل الله وخلقه لا من فعل العبد، ومع ذلك فتركه وعدم تغييره من التشبه المنهي عنه، فما بالك إذن بمن يختار ما عليه أهل الكفر والفسوق على ما عليه أهل الهدى والصلاح. وحين جاء أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأى رأسه كأنها الثغامة بياضًا، قال: ((غَيِّرُوا هَذَا بِشَيءٍ)) [15] وفي رواية: ((واجْتَنِبُوا السَّوَادَ)) [16]؛ ولذلك على المسلم أن يغير هذا الشيب بالحناء والكتم، كما ورد بذلك الحديث حتى تحصل المخالفة لليهود والنصارى. أحكام التشبه: قد يصل التشبه بصاحبه إلى الكفر، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51]. قال الشنقيطي - رحمه الله -: "ذُكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم" [17]. وبين في موضع آخر: "أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله - تعالى -: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران: 28]، فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا، وإيضاح أن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يُكتفى بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة: ومَنْ يَأَتِي الأُمُورَ على اضْطرارٍ *** فَلَيْسَ كَمْثِلِ آتَيِهَا اخِتْيارًا ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدًا اختيارًا رغبة فيهم أنه كافر مثلهم" [18]. وقد يصل التشبه إلى البدعة، فكل من جاء بعبادة لم يأت بها الشرع فقد شابه اليهود والنصارى، قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: "وقد ثبت عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الصالح بعدهم التحذير من البدع، والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله - تعالى -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3][19] ومثال ذلك بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وقد تشبه مبتدعوها بالنصارى حذو القذة بالقذة. ومن التشبه ما يكون كبيرة من الكبائر، مثل تهنئة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم بأعيادهم، لما في ذلك من إعانتهم وإقرارهم على ما هم عليه من الفجور والضلال. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به، فحرام بالاتفاق مثل أن تهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله، وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام.. ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة، أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبًا لمقت الله وسقوطهم من عينه" [20]. ومن التشبه ما يدخل به المتشبه في المعصية للَّه ورسوله، وإن كان لا يُستطاع الجزم بوقوعه في الكبيرة، فقد روى الترمذي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ، وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ)) [21]. ومن التشبه ما لا يقطع بتحريمه إلا أن تركه أولى، والآثار على ذلك من السلف الصالح كثيرة جدًّا، فقد كره بعضهم الرمي بالقوس الفارسية، وكان بعضهم يكره الشرب في الكأس الذي له ساق، وكان بعضهم يكره الصمت عند الأكل حتى لا يتشبه بالأعاجم.. وغير ذلك كثير. سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: شاع في كثير من بلاد المسلمين لبس البدلة؛ ذلك اللباس المكون من جاكيت وبنطلون، وقد تقتصر الملابس على بنطلون وقميص أو فانيلا بكم أو بنصف كم في الصيف لشدة الحر، فهل لبس هذا اللباس يدخل تحت باب التشبه بغير المسلمين؟ أو لا؟ الجواب: الأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ لأنه من أمور العادات، قال - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32] ويستثنى من ذلك ما دل الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال، والذي يصف العورة؛ لكونه شفافًا يُرى من ورائه لون الجلد، أو لكونه ضيقًا يحدد العورة؛ لأنه حينئذ في حكم كشفها وكشفها لا يجوز، وكالملابس التي هي من سيما الكفار الخاصة بهم، فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال. وليس اللباس المسمى بالبنطلون والقميص مما يختص لبسه بالكفار، بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد لعدم الألف ومخالفة عادة سكانها في اللباس، وإن كان ذلك موافقًا لعادة غيرهم من المسلمين، لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات" [22]. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو/ عبد الله بن قعود عضو/ عبد الله بن غديان نائب الرئيس/ عبد الرزاق عفيفي الرئيس/ عبد العزيز بن باز ومن مظاهر التشبه بالكفار ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنهما - قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال- وهو كذلك: ((لَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا [23]. وفي الصحيحين من حديث عائشة أن أم سلمة وأم حبيبة رضي اللَّه عنهن ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة، رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّه)) [24]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المساجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا، ودليل على الحذر من جنس أعمالهم، حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس، ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة" [25]. ومن مظاهر التشبه بالكفار ما يحصل من شباب وفتيان المسلمين من التشبه بالكفار في ملابسهم وهيئاتهم ولبس السلاسل، ووصل الشعر، وكذلك قصات الشعر الخاصة بهم، ومشاهدة حياتهم اليومية في الأفلام والمسلسلات، والإعجاب بهم والتحدث بلغتهم من غير حاجة إلى ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: ((إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلا تَلْبَسْهَا)) [26]. "علل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك، كما في الحديث قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ، وَلاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ" [27] ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبهًا بالكفار)) [28]. ومنها التشبه بالكفار في إقامة الأعياد، فمن الاحتفال بالمولد النبوي، إلى الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وهذه كلها أحدثت محاكاة للكفار، وكذلك الأعياد الوطنية والقومية، ورأس السنة، وعيد الميلاد، ومن آخرها ما يسمى بعيد الحب، يرتدي فيها الشباب والفتيات الملابس الحمراء، ويتبادلون الورود الحمراء. ومنها الاعتماد في التاريخ على الميلاد والأشهر الإفرنجية، أي ميلاد عيسى -عليه السلام- متابعة للنصارى، ويريدون من المسلمين أن يتركوا التاريخ الهجري، ويعتمدون على التاريخ الميلادي النصراني. ومنها تربية الكلاب واقتناؤها لغير حاجة، ولا شك في حرمة ذلك، إلا كلب الصيد والماشية والحرث، كما وردت بذلك النصوص، بل ويشترون هذه الكلاب بأثمان غالية؛ كل هذا تقليدًا ومحاكاة للكفار. ومنها حلق اللحى، وفيه تشبه بالمشركين والمجوس واليهود والنصارى، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ) [29]. وروى مسلم في صحيحه من حديثه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ) [30]. ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار، الأمر بمخالفة الشياطين، لما روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَا يَأْكُلنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا)) [31]. فإنه علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال، بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة [32]. والمظاهر كثيرة، وما ذكرته غيض من فيض، وقليل من كثير، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم]، فإنه كتاب عظيم النفع والفائدة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (1/22) بتحقيق د. ناصر العقل بتصرف. [2] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم اقتضاء الصراط المستقيم (1/23) بتحقيق د. ناصر العقل. [3] برقم 4031، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: هذا إسناد جيد، كما حسنه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري (6/98). [4] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم ص (88-89) بتحقيق د. ناصر العقل. [5] صحيح البخاري برقم (7320)، وصحيح مسلم برقم (2669). [6] صحيح البخاري برقم 7319. [7] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بتحقيق: د. ناصر العقل ص49. [8] قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (1/363-365): رواه حرب [وهو الكرماني[بإسناد جيد، وقال محققه د. ناصر العقل: أخرج البيهقي أكثره مع اختلاف في السياق بسنده في السنن الكبرى، كتاب الجزية باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية (9/202). وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ص452-453، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا (1/365): وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة. [9] نقلًا عن اقتضاء الصراط المستقيم (1/367)، وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم - رحمه الله - ص452-455. [10] سنن البيهقي الكبرى (9/234)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وروي بإسناد صحيح عن أبي أسامة حدثنا عون عن أبي المغيرة عن عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنه - قال: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشر معهم يوم القيامة. اقتضاء الصراط المستقيم (1/200). [11] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. تحقيق د. ناصر العقل ص220-221. [12] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: د. ناصر العقل ص220. [13] صحيح مسلم برقم (259). [14] صحيح البخاري برقم (3462)، وصحيح مسلم برقم (2103). [15] صحيح مسلم برقم (2101). [16] صحيح مسلم برقم (2101). [17] أضواء البيان للشنقيطي (2/132). [18] أضواء البيان للشنقيطي - رحمه الله - (2/133). [19] رسالة للشيخ بعنوان التحذير من البدع ص11. [20] أحكام أهل الذمة (1/144). [21] برقم (2848)، وحسنه الشيخ الألباني - رحمه الله - كما في صحيح سنن الترمذي برقم (2168). [22] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (24/38-39) برقم (1620. [23] صحيح البخاري برقم (435)، وصحيح مسلم برقم (531). [24] صحيح البخاري برقم (1341)، وصحيح مسلم برقم (528). [25] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بتحقيق: د. ناصر العقل ص106، 107. [26] صحيح مسلم برقم (2077). [27] صحيح البخاري برقم (5426)، صحيح مسلم برقم (2067). [28] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، للمحقق: د. ناصر العقل ص120. [29] صحيح البخاري برقم (5892)، وصحيح مسلم برقم (259). [30] برقم (260). [31] برقم (2020). [32] مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ص147 بتحقيق د. ناصر العقل.الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإنه ينبغي للمسلم أن يسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك له في علمه وعمله، وفي وقته وماله، وفي أهله وأولاده، وفي دنياه وآخرته، وأن يحرص على الأسباب التي تستجلب بها البركة. قال الراغب: "البركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء" [1]. ا هـ. فالبركة ما حلت في قليل إلا كثر، ولا كثير إلا نفع، وإنَّ من أعظم ثمار البركة في الأمور كلها استعمالها في طاعة الله -عز وجل-. قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. ولما كانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- أعظم الناس قيامًا بالتقوى ولوازمها، كانت البركة لهم وَبِهم أعظم وأعمّ، ولقد هداهم الله –تعالى- ومن شاء من صالحي العباد إلى ما فيه الخير كله والبركة كلها، وهو هذا الكتاب العظيم الذي أمر الناس بتعلمه وتدبره. قال -تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29]. فعن أبي عثمان قال: "قال عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما-: جاء أبو بكر بضيف له -أو بأضيافٍ له- فأمسى عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاء قالت أمي: احتبستَ عن ضيفك -أوْ أضيافِك- الليلة. قال: أَو َمَا عَشَّيْتِهِم؟ فقالت: عرضنا عليه أو عليهم فأبوا أو فأبى. فغضب أبو بكر فسب وجَدَّعَ، وحلف لا يطعمه. فاختبأت أنا، فقال: يا غُنْثر، فحلفت المرأة لا تطعمه حتى يطعمه. فحلف الضيف أو الأضياف أن لا يطعمه أو يطعموه حتى يطعمه. فقال أبو بكر: كأن هذه من الشيطان، فدعا بالطعام، فأكل وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا رَبَا من أسفلها أكثر منها. فقال: يا أخت بني فراس ما هذا؟! فقالت: وقرة عيني إنها الآن لأكثر قبل أن نأكل، فأكلوا وبعث بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر أنه أكل منها" [2]. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لقد توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رفٍّ لي، فأكلت منه حتى طال علي فَكِلْتُه ففني" [3]. وهناك أسباب كثيرة تستجلب بها البركة: منها: تقوى الله -جل وعلا-، فما اتقى اللهَ عبدٌ في أيّ أمرٍ من أموره إلا بارك الله له فيه بقدر تقواه أو أعظم، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. ومنها: الدعاء، ولقد علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاء بطلب البركة في أمور كثيرة، فقد علَّمنا أن ندعو للمتزوج فنقول: ((بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما بخير))[4]، وعلمنا أن ندعو لمن أطعمنا فنقول: ((اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم))[5]، وعلمنا أن ندعو بالبركة في طعامنا فنقول: ((اللهم بارك لنا فيه))[6]. وكان -صلى الله عليه وسلم- يؤتى بِالأَطْفالِ فيَدْعُو لهم بالبركة [7]، وإذا أتوه بالباكورة من الثمرة دعا فيها بالبركة، فقال: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَفِي ثِمَارِنَا، وَفِي مُدِّنَا، وَفِي صَاعِنَا، بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ، ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ))[8]. ومنها: أن يأخذ المال بطيب نفس من غير شره ولا إلحاح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام -رضي الله عنه-: ((يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ))[9]. ويلحق بهذا إنفاق المال في وجوه البر وإخراج زكاته، وبذل حقوقه بإخلاص وطيب نفس، قال -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ))[10]. وفي حديث قدسي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يَبْلُغ به النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: ((قال الله -تبارك وتعالى-: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ))[11]. ومنها: الصدق في المعاملة من بيع وشراء وتجارة وشراكة وغيرها، عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا))[12]. ومنها: قضاء الأعمال والتجارات في أول النهار، فعن صخر الغامدي -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا))[13]. قال: "فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث سرية بعثها أول النهار، وكان صخر رجلاً تاجرًا، وكان لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار، فكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضع ماله". ومنها: اتباع السنة في الطعام والشراب، وفيه أحاديث نشير إلى بعضها، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ))[14]. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلعق الأصابع والصحفة"، وقال: ((إنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ البَرَكَة))[15]. وعن وحشي -رضي الله عنه-: "أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع!" قال: ((فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ؟))، قالوا: "نعم"، قال: ((فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ)) [16]. ومنها: أي من أسباب حصول البركة، استخارة المولى -جل وعلا- في الأمور كلها، مع الإيمان بأن ما يختاره الله لعبده خير مما يختاره لنفسه في العاجل والآجل؛ وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدة حرصه عليها يعلمها أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن؛ فيقول: ((إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي، قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ))[17]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم (41). [2] صحيح البخاري (4/117) برقم (6141). [3] صحيح البخاري (4/182) برقم (6451). [4] سنن الترمذي (3/400) برقم (1091)، وقال: "حسن صحيح". [5] صحيح مسلم (3/1616) رقم (2042). [6] أبو داود (3/339) برقم (3730)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (381). [7] سنن أبي داود (4/328) رقم (5106). [8] انظر: صحيح مسلم (2/1000) برقم (1373). [9] صحيح البخاري (1/456) برقم (1472)، وصحيح مسلم (2/717). [10] صحيح مسلم جزء من حديث (4/2001) برقم (2588). [11] صحيح مسلم (2/690) برقم (993). [12] صحيح البخاري (2/92) رقم (2110)، صحيح مسلم (3/1164) برقم (1532). [13] مسند الإمام أحمد (3/416)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/278) برقم (1300). [14] سنن الترمذي (4/260) برقم (1805). [15] صحيح مسلم (3/1606) برقم (2034). [16] سنن ابن ماجه (2/1093) برقم (3286)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (2674). [17] صحيح البخاري (4/382) برقم (7390).2.سلسلة ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام
حين نتكلَّم عن العفويَّة كمصطلحٍ عرفيٍّ، فإنَّنا نقصد في كلامنا: الابتعاد عن التكلُّف والمَشاهِد التمثيليَّة، التي يتبنَّاها (الكثيرُ منَّا) لسببٍ أو لآخر، وفي كلِّ تفاصيل الحياة، في المأكَل والملبَس والمركبِ، وطريقةِ التعامل، وحتى في الأخلاقِ العامَّة، وربَّما حتى في العبادة أحيانًا، فعلى سبيل المثال وليس الحصر تجد إنسانًا يستحلُّ الكذبَ بلا تردُّد، فتراه يَكذب ومن غير أن يَرمش له جفنٌ في مواضِع معيَّنة، ويحرص على أن يكون صادقًا ويتكلَّم عن النَّواهي الشرعيَّة والعواقب الوخيمة للكذِب في مواضع أخرى. لقد أدَّى الابتعاد عن العفويَّة إلى ظهور مشكلةٍ لم تكن كَبيرة فحَسْب، بل كانت مركَّبة التَّعقيد، وقد كان لمجالها السَّلبي تأثيرٌ كبير وواضح على اتِّجاه البوصلة، على المستوى الفَردي والجماعيِّ في آنٍ واحد، هذه المشكلة هي تَعدُّد الشخصيَّات، (وهذه الصفة فاقَت الازدواجيَّة في الشخصيَّة)؛ فالازدواجيَّة تعني وجود شخصيَّة أخرى متناقِضة مع شخصيَّة الفرد، تَظهر تحت ظروف أزماتٍ ضاغِطة معيَّنة أو في وقت معيَّن، وهذه المعضِلة هي التي جعلَت الكثيرَ من بيننا يَحمل أكثر من هويَّة (معنويَّة) لشخصِه؛ فهو في البيت إنسانٌ بمواصفات معيَّنة، ومع الأصدقاء شخصٌ آخر، وفي العمل أو مكان الدِّراسة شخصٌ ثالث، ومع مَن لا يعرفهم شخصٌ رابع. وفي هذه القضيَّة المحوريَّة كان حِرص رسولِ الله محمد صلى الله عليه وسلم واضحًا وكبيرًا باتِّجاه ثبوت الشخصيَّة الواحدة للفَرد، والمحافَظة على عفويَّتها وحقيقتها وتوازنِها، فكان صلَّى الله عليه وسلم يُعلِن ذلك الأمرَ لأصحابه بوضوحٍ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((تجدون النَّاس معادِن، خيارُهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فَقهوا، وتجدون خيرَ الناس في هذا الشَّأن أشدهم له كراهِية، وتجدون شرَّ النَّاس ذا الوَجهَين الذي يَأتي هؤلاء بوجهٍ، ويأتي هؤلاء بوجهٍ))[1]. ولعلَّ التكلُّف في الحياة هو الوسِيلة البَشِعة لقتل الفِطرة الإنسانيَّة التي فطَر الله جلَّ جلاله الناسَ عليها. فما هي الفِطرة؟ وكيف نحافِظ عليها من الانحراف؟ • الفطرة البشرية فِطرتان: الأولى: تتعلَّق بالجزء الرُّوحي (المعنوي)، الذي هو الجُزء السَّماوي للإنسان، والمقصود بالسَّماويِّ هو المتمثِّل بنفخَة الرُّوح في الإنسان، قال تعالى في حقِّ أبينا آدم عليه السلام: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: ٢٩]، وهذه الفِطرة إيمانيَّةٌ روحيَّة، وهي التي تقود الإنسانَ نحو الإيمان الفِطري بالخالِق جلَّ جلالُه، وتُلهم النفسَ البشريَّة أسسَ الاستعداد والحاجَة لوجود مَعبودٍ يستحقُّ أن يُعبَد، وهو الله جلَّ جلاله لا إله غيره، وهذه الفِطرة هي التي دَعَت ذلك الأعرابيَّ الذي يَرعى الغنمَ وقد آمن بالله جلَّ جلاله إيمانًا راسخًا، حين سُئل كيف آمن بالله جلَّ جلاله ولم يرَه؟ لأَنْ يقول: "البَعرة تدلُّ على البَعير، والأثَر يدلُّ على المَسير، فسماءٌ ذات أبراجٍ، وأرضٌ ذات فِجاج، ألاَّ تدلُّ على العليم الخبير؟"، لقد عرف الأعرابيُّ اللهَ جلَّ جلاله بفطرته السَّليمة.
والثانية: تتعلَّق بالجانب المادِّي للإنسان (الجزء الأرضي)؛ وهو الطِّين الذي خَلق الله جلَّ جلاله الإنسانَ منه، وهذه الفِطرة هي التي تَدعو الإنسانَ إلى حبِّ الخير وكراهِية الشرِّ، وحبِّ الجميل ونَبْذ القَبيح، والانجذاب إلى الشَّيء الشَّبيه له، وكما يقال في المثَل: "من طينته"، فكما هو مَعروف كم من الخَير يَحتوي هذا الطِّين، وكيف تَنبت فيه من خَيرات وثمرات، وتُستخرَج منه مَعادن ثمِينة. والفِطرة حين تَشوبها الشَّوائب فإنَّ الفرد يكون قد فَقد السيطرةَ على زِمام النَّفس المجبولة على الارتباط العَفوي (الفِطري) بالخالِق جلَّ جلاله، كما هي مَجبولة على الفَضيلة والخيرِ وحبِّ الجميل، وإنَّ البوصلة في حالَة تشوُّهِ الفِطرة ستشير إلى الاتِّجاه الخَطأ بكلِّ تأكيد، فيجنح الإنسانُ إلى عِبادة غير الله جلَّ جلاله من غيرِ شعورٍ، فربَّما عبَدَ الشجرَ والحجرَ والبقرَ، وربَّما عبَدَ المالَ والجاه، يقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((تَعِس عبدُ الدِّينار، والدِّرهم، والقَطيفة، والخَميصة، إن أُعطِي رَضي، وإن لم يُعط لم يَرض))[2]. وربَّما يَجنح إلى حبِّ الشرِّ والقَبيح لنَفس السَّبب، فيستسِيغ ما لا توافِقه الفِطرة السَّليمة من القَتل وشربِ وأَكل القَبيح الطَّعم الذي حرَّمه الله جلَّ جلالُه، ويأتي بأَفعال من البشاعَة والشناعة ما يَغلب فيها حتى الحيوانات أحيانًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مَولود إلاَّ يولد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه، وينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمعاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟))، ثمَّ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30][3]. وحتى نحافِظ على فِطرتنا السَّليمة التي تُدير دفَّة بوصلتنا، علينا العمل بجدٍّ ومثابَرة لكي نكون قرِيبين من الله جلَّ جلاله، والقُرب من الله جلَّ جلاله يَحفظ لنا فِطرتنا، فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتَ مضجعَك، فتوضَّأ وضوءَك للصَّلاة، ثمَّ اضطجع على شقِّك الأيمن، ثمَّ قل: اللهمَّ أسلمتُ وجهي إليكَ، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلجأ ولا مَنجا منك إلاَّ إليك، اللهمَّ آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ؛ فإِن متَّ من لَيلتك، فأنتَ على الفِطرة، واجعلهنَّ آخرَ ما تتكلَّم به))، قال البراء رضي الله عنه: فرددتُها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا بلغتُ: اللهمَّ آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، قلت: ورسولِك، قال: ((لا، ونبيِّك الذي أرسلتَ))[4]. وما يَنبغي النَّظَر له بعِناية هنا حِرص رسولِ الله محمد صلى الله عليه وسلم في أن يكون الفردُ في حال اتِّصال دائمٍ بخالِقه تبارك وتعالى في كلِّ ساعات يومِه، وبخاصَّة ساعة انتهاء أعمال اليوم والشُّروع في النَّوم؛ حيث سيَبدأ الفردُ بأعمالِ يومٍ ثانٍ، فيُعلِّم رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم الصحابيَّ رضي الله عنه ما يَجعله يحافِظ على فِطرَته السَّليمة التي أَساسُها أن يكون مع الله جلَّ جلاله، ومن اللافِت في هذا الموضوع حِرص النبيِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم على نصِّ العِبارة، ولم يفوِّض المتعلِّم بالتصرُّف بالألفاظ، فحين ردَّدها الصحابيُّ رضي الله عنه بعد النبيِّ قال: "رسولِك"، صحَّح له رسولُ الله محمَّد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((نبيِّك))، على الرغم من أنَّ المعنى لن يختلَّ، كما أنَّه يبقى صحيحًا، ولكن كان لرسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم مرادٌ آخر في الموضوع؛ أن الالتزامَ الدَّقيق بالنصوص والأوامر الشَّرعيَّة لهو من ضَوابط بوصلة الفِطرة السليمة، فأصبَح لزامًا مع هذا الفهم البحث عن دلالاتٍ أو معايير يُقَوِّم الفردُ نفسَه عن طريقها؛ ليعرف نفسَه هل ما زالَت على الفِطرة، أم أنَّها جنحَت بعيدًا؟ فمِن تلك الدلالات والمعايير التي تقوِّم فِطرتَنا حُسن العبادة، فقد رأى حذيفةُ بن اليمان رضي الله عنه رجلاً لا يتم الركوعَ والسُّجود، قال: "ما صلَّيتَ، ولو متَّ متَّ على غير الفِطرة التي فَطَر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم عليها"[5]. • العفويَّة المطلوبة في العلاقات أن يبادِر الإنسان بأن يعبِّر عن حَجمه الحقيقي أمام الآخرين؛ فإنَّ إظهار الشَّكل والحَجم الحقيقي بعيدًا عن الزيفِ يُكسب الفردَ المزيدَ من الثِّقة بالنَّفس، فلا يضطر إلى أن يَأتي بأعمالٍ غير حقيقيَّة أو يدَّعيها، كما يكسبه هذا الخُلق الحسَنُ المزيدَ من احترام الآخرين، فالحذَر كل الحذر من ادِّعاء العِلم لمن لا يكون عالمًا، والحذَر من زَعم المهارة في أَمرٍ ما لِمن لا يكون عارفًا حاذقًا به، والكلام عن البُطولة لِمن لا يكون فارسًا، وإنَّ التظاهُر بأشياء أو أخلاق أو قِيَم على أنَّها من صميم شخصيَّتنا والحقيقة أنَّ الأمر ليس كذلك - سيؤدِّي إلى تناقُض بين المهارات المتوفِّرة على أَرض الواقِع وحَجم المهام الملقَاة على عاتِقنا، فتأتي النتائجُ مخيبة للآمَال، ويحصل الإخفاقُ الذي يُظهر صورتَنا الحقيقيَّة أمام الآخرين، فينظرون لصورتنا في النِّهاية على أنَّها مشوَّهة. وأحيانًا يُخدَع بعضُ الأفراد بأنَّه ربَّما يستطيع أن يعوِّض بعضَ صفات النَّقص في شخصيَّته - وكلُّ إنسانٍ لديه نَقص في بعض الصِّفات - عن طريق بَعض الفعاليَّات المادِّيَّة، ومن أَمثِلة ذلك يعتقد من تَنقصه مهارات التَّفاوض وإقناع الآخرين والجرأَة الأدبيَّة في أنَّه لو لبس بدلةً فاخِرة، ورَبْطَةَ عنقٍ متميزة، وقَيمصًا فريدًا من نَوعه - سيتمكَّن من إِضافة أشياء إيجابيَّة لشخصيَّته تساهِم في إضعاف الآخرين وإمكانيَّة إقناعِهم بأفكاره؛ فإنَّه يقع في خطأ كَبير، ويَخوض في تهوُّر خطِير، ولا يفوتنا أن نَذكر أنَّه قد يُخدع من كان قليل الخِبرة وساذج التَّفكير بهذه الأمور، ولكن هذه الفعاليَّات لا يمكن أن تمرَّ على العاقِل الحاذِق، وإن مرَّت هذه المظاهِر في بعض الأحيان على بعضِ الأفراد، ولكنَّها لن تكون لتمرَّ على جميع الأفراد ولا على طولِ الوقت، وفي هذا المقام يقول رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((ليس على رجلٍ نَذرٌ فيما لا يَملك، ولَعْنُ المؤمن كقَتْلِه، ومَن قتل نفسَه بشيء في الدُّنيا عذِّب به يوم القيامة، ومن ادَّعى دعوى كاذِبة ليتكثَّر بها، لم يزده اللهُ إلاَّ قِلَّة، ومن حلف على يمين صبر فاجرة))[6]. والعفويَّة المطلوبَة من أجل ضَبط البوصلة تكون للكبيرِ قبل الصَّغير، وللقويِّ قبلَ الضَّعيف، وللغنيِّ قبلَ الفقير، ولذي الشَّأن قبل الحقير؛ لأنَّ كِبار القوم وساداتهم هم أَولى النَّاس بها؛ لأنَّهم قدوات يُحتذى بها، فهُم مَن يجب عليهم السَّيطرة والمحافَظة على عفويَّتهم؛ لوجود مسببات وعوارِض كثيرة تُحيط بهم قد تُحرِّف أو تشوِّش وربَّما تَقتل عفويَّتهم؛ فكَثرة المال، وصِيتُ الجاه، وعلوُّ المنصِب الوظيفي، ودَرَجة الشَّهادة الجامعيَّة، ومنصب القِيادة، وكَثرة الأتباع - كلُّها أسبابٌ مؤدِّية إلى فقدان الفرد لعفويَّته. فحين يتعلَّق الفرد بأحد هذه الأمور الدنيويَّة، ستقوده إلى مجموعةٍ من الأعمال السيِّئة - وربَّما يضطر لها - التي تدمِّر فطرتَه وتقتلها، مثل: "أن لا يَبتغي وجهَ الله في العمل، والرِّياء، والتكبُّر، والعُجب والغرور بنفسِه، وحب الثَّناء والمَدح من الآخرين، والحسَد، وتقديم المفضول على الفاضِل بسبب الشُّهرة، وعدم محاسبة النَّفس"[7]. ومن خِلال مَسيرة الحياة رأينا كَم من رجل متواضِع، بسيط التعامُل، صحيحِ القلب، نقيِّ البدَن من أمراض القلوب، مرهَف الحسِّ، ولكنَّه ما أن يتولَّى أمرَ مجموعة حتى يَسعى من يَعمل معه لإفساد عفويَّته - التي أدَّت به إلى ما هو عليه - وحين يَرفض أن يتحوَّل من إنسانٍ إلى وَحش، يَضغطون عليه بشتَّى الوسائل، وخاصَّة تِلك التي يزينونها له على أنَّها شرعيَّة وتراعي المصالحَ العامَّة، ويبدأ الفرد بالتنازُل شيئًا فشيئًا، حتى يتحوَّل من إنسان عفويٍّ طيِّبٍ إلى وَحش كاسِر يدمِّر كلَّ شيء يقف في طريقه، ولربَّما دمَّر من أوصلوه إلى ما هو عليه، والبعض يَصِل إلى أن يدمِّر نفسَه. • إنَّ الخُلق الحسن مع الآخرين على اختلاف مشاربهم، والتعامل معهم بهدوءٍ ورِقَّة وبشَاشَة - لهو من العفويَّة التي تُعين الفردَ على المحافظة على بوصلته بالاتِّجاه الصَّحيح، فالابتسامةُ مثلاً رسولُ سلامٍ وودٍّ إلى الآخرين، فعن مكحول قال: "الْتقى يحيى بنُ زكريَّا وعيسى ابن مريم عليهما السَّلام، فضحكَ عيسى في وجه يَحيى وصافحَه، فقال له يَحيى: يا بن خالَتي، ما لي أراك ضاحكًا كأنَّك قد أَمِنْتَ؟ فقال له عيسى: يا بن خالَتي، ما لي أراك عابسًا كأنَّك قد يَئِسْتَ؟ فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليهما عليهما السلام: إنَّ أحبَّكما إليَّ أبشُّكما بصاحبه"[8]. • ومن العفويَّة الاعتراف بعدَم الكمال؛ فالإنسان مَهما بلغَ عِلمُه، وارتفعَ مقامُه، وكثرَت أموالُه، ومهما تعدَّدَت مهاراتُه، وتميَّز بآرائه الصَّائبة من وجهة نظره - يَبقى يتبنَّى مواقف خاطِئة أحيانًا، وهذا هو حالُ الإنسان؛ يَدور بين الخطأ والصَّواب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ بَني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون))[9]. فوجب على كلِّ فردٍ ألا يَقع في العُجب بنفسِه، ويستمرِئ أن يَراها أعلى وأهمَّ من الآخرين، وعليه مراجعَة تَسمية الأخطاء التي يَقع فيها بنفسه، والتقصِير الذي يَصدر عنه، فلا يَنتظر أن يقدِّمه له الآخرون، فقد سُئلَ عبدُالله بن المبارك: ما الكِبر؟ قال: "أن تزدري النَّاسَ"، وسئلَ عن العُجب، قال:" أن ترى أنَّ عندك شيئًا ليس عِند غيرك"، قال: "ولا أَعلَم في المصلِّين شيئًا شرًّا من العُجب"[10]. • التزام منمِّيات الفِطرة واجتناب ماحقَاتها: فهناك أمور تنمِّي الفِطرةَ، وبضدِّها أمور تدمِّرها وتَمحَقها، فمن الأمور التي تحافِظ على الفِطرة السَّليمة، وليس ذلك فحسب بل وتنمِّيها: • الصلاة في جَوف الليل (التهجُّد)، فهو شرَف المسلِم وهو عَلامة الإخلاص لله جلَّ جلاله الذي بيده مفاتِيح كلِّ شيء، فعن سَهل بن سَعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا محمد، عِش ما شئتَ فإنَّك ميِّت، واعمل ما شِئتَ فإنَّك مجزيٌّ به، وأَحبِب مَن شئتَ فإنَّك مفارِقُه، واعلم أنَّ شرَف المؤمن قيامُ الليل، وعزَّه استغناؤه عن النَّاس))[11]. ومن العفويَّة الاعتراف بعدَم الكمال؛ فالإنسان مَهما بلغَ عِلمُه، وارتفعَ مقامُه، وكثرَت أموالُه، ومهما تعدَّدَت مهاراتُه، وتميَّز بآرائه الصَّائبة من وجهة نظره - يَبقى يتبنَّى مواقف خاطِئة أحيانًا، وهذا هو حالُ الإنسان؛ يَدور بين الخطأ والصَّواب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ بَني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون))[9]. فوجب على كلِّ فردٍ ألا يَقع في العُجب بنفسِه، ويستمرِئ أن يَراها أعلى وأهمَّ من الآخرين، وعليه مراجعَة تَسمية الأخطاء التي يَقع فيها بنفسه، والتقصِير الذي يَصدر عنه، فلا يَنتظر أن يقدِّمه له الآخرون، فقد سُئلَ عبدُالله بن المبارك: ما الكِبر؟ قال: "أن تزدري النَّاسَ"، وسئلَ عن العُجب، قال:" أن ترى أنَّ عندك شيئًا ليس عِند غيرك"، قال: "ولا أَعلَم في المصلِّين شيئًا شرًّا من العُجب"[10]. • التزام منمِّيات الفِطرة واجتناب ماحقَاتها: فهناك أمور تنمِّي الفِطرةَ، وبضدِّها أمور تدمِّرها وتَمحَقها، فمن الأمور التي تحافِظ على الفِطرة السَّليمة، وليس ذلك فحسب بل وتنمِّيها: • الصلاة في جَوف الليل (التهجُّد)، فهو شرَف المسلِم وهو عَلامة الإخلاص لله جلَّ جلاله الذي بيده مفاتِيح كلِّ شيء، فعن سَهل بن سَعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا محمد، عِش ما شئتَ فإنَّك ميِّت، واعمل ما شِئتَ فإنَّك مجزيٌّ به، وأَحبِب مَن شئتَ فإنَّك مفارِقُه، واعلم أنَّ شرَف المؤمن قيامُ الليل، وعزَّه استغناؤه عن النَّاس))[11]. • الإكثار من النَّوافِل: جاء في أساس البلاغة للزَّمحشري: ورجل نوفل: مِعطاء، وتنفَّل على أصحابه: أخذ من النَّفل أكثر ممَّا أخذوا، ويقال: نفِّلوا كُبْرَكم؛ أي: زيدوا أكبركم على حصَّته، فهذا يَعني أنَّ النَّوافل إمَّا أن تكون عطاءً، أو هي التَّقديم (الأخذ) أكثر من الآخرين، أو هي الزِّيادة على الحدِّ الطَّبيعي، وكلُّ هذه المعاني عَظيمة تدلُّ على كرَم صاحبها وعلوِّ قَدرِه ونفسه الأبيَّة، وذلك هو السرُّ في قول الله تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافِل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه: كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يبصِر بِه، ويدَه التي يَبطش بها، ورِجلَه التي يَمشي بها، وإن سألَني لأعطينَّه، ولئن استعاذَني لأعيذنَّه))[12]. فمن كان الله جلَّ جلاله معَه إلى هذه الدَّرجة في سمعه وبصرِه ويده ورِجلِه، ويستجيب الله جلَّ جلاله لدعوته، ويُعاذ بخالِق الخَلق والأسباب - سيكون على فِطرة سَليمة. وأحيانًا يَسعى البعضُ منا لقَتل الفِطرة الربانيَّة السَّليمة في داخِل آخرين؛ وذلك مِن خلال مطالبَتهم بأقوالٍ أو أفعال مخالِفة لأوامر شرعيَّة أو ضوابط عرفيَّة، ومن ذلك دَعوة كِبار القوم لصغارهم بممارَسة الكذب أو النِّفاق الاجتماعي أو السَّعي بالنَّميمة وما إلى ذلك، إنَّ مثل قبول هذه الأفعال تَقتل الفِطرةَ السَّليمة، وتحوِّل ذلك الإنسان إلى وحشٍ كاسِر يطول أذاه أفرادًا مسالِمين، ومع مرور الوقت يَطول حتى من أَفسد فِطرته، لقد استطاع الإمام الشَّافعيُّ أن يختصر الطريقَ للباحِث عن العفويَّة في العلاقات، فهو يقول: إذا المرءُ لا يرعاك إلاَّ تكلُّفا فدَعْهُ ولا تكثِرْ عليهِ تأسُّفَا ففي النَّاس أبدالٌ وفي الترك راحة وفي القلب صبرٌ للحبيبِ ولو جَفَا فما كلُّ من تَهواه يهواك قلبُه ولا كل مَن صافيتَه لك قد صفَا إذا لم يَكن صفو الوداد طبيعةً فلا خَير في وُدٍّ يجيء تكلُّفَا ولا خير في خلٍّ يخون خليلَهُ ويَلقاه من بعد المودَّة بالجفَا وينكر عيشًا قد تقادَم عهدُه ويُظهر سرًّا كان بالأمس في خَفا سلامٌ على الدُّنيا إذا لم يَكُن بها صديق صَدوق صادِق الوعدِ منصِفَا [1] صحيح البخاري - كتاب المناقب. [2] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسِّير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله. [3] صحيح البخاري - كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات. [4] صحيح البخاري - كتاب الوضوء، باب فَضل من بات على الوضوء. [5] صحيح البخاري - كتاب الأذان، أبواب صِفة الصلاة. [6] صحيح مسلم - كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. [7] الأتقياء الأخفياء؛ سعيد عبدالعظيم، ص 41. [8] حلية الأولياء - مكحول الشامي. [9] سنن الدارمي - كتاب الرقاق؛ باب: في التوبة. [10] شعب الإيمان للبيهقي - التاسع والثلاثون من شعب الإيمان، فصل في التواضع. [11] المعجم الأوسط للطبراني - باب العين: مَن اسمه عبدالله. [12] صحيح البخاري - كتاب الرقاق، باب التواضع.الإيجابية عملٌ عكس السلبية؛ فهي تمنَع الكسل والخمول والجمود، وتبعَث في الإنسان الحيوية والنشاط، وتُكسِبه الهمَّة في إنجاز أعمال الخير لنفسِه ولمَن حوله، إنها تعني العطاء والبذل الذي لا يَنتهي، وهي رقيٌّ لمقام النفس البشرية وسموٌّ بها، وهي تَجاوز لكل النزعات والهواجس النفسية السيئة، والإيجابية دافع مهم للفَرد مِن أجل بذل الجهد اللازم للإنجاز، ولا يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل تَبرز أهميتها في أن يكون الفرد مبادرًا بالأعمال، ويكون فيها في قمَّة التفاؤل بعيدًا عن اليأس والإحباط والقنوط. ولكي تكون العلاقات الاجتماعية ذات قيمة ومعنى، لا بد لها مِن أن تكون إيجابية، والإيجابية التي هي محل بحثنا هنا تعني تبادل المنفعة مع الآخرين من الوجوه كافة، والمنفعة المتبادَلة لا تقتصر على الجانب المادي، لذلك فهي لا تَعني بالضرورة أنها حكْر للغنيِّ حين يقدم الأمور المادية للفقير، بل يمكن للفقير أن يكون إيجابيًّا فينفع الناس في أمور كثيرة؛ منها: العلم والأخلاق والتربية والمساعدة البدنية وغير ذلك؛ فلقد كان علماء المسلمين ودعاتهم على فَقرِهم يُربُّون ويُعلِّمون ويؤدبون خلفاء المسلمين وأمراءهم على غناهم، والإيجابية تكون من وجوه عديدة منها: • مد يد العون للآخرين وفق الظروف المتاحة وفي الوقت المناسب، وإذا تحقَّقت مُساعدة الآخرين فقد تحقَّقت الإيجابية بمعناها الحقيقي، ولقد اتضحت صورتها بإجابة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لسائله، فلقد سُئل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: مَن خيرُ الناس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنفعهم للناس))[1]. وقد كانت رؤية السيدة الكريمة خديجة رضي الله عنها لإيجابية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم - وهو زوجها - في قمَّة الوعي والإدراك والنظرة العملية الواقعية وهي تقوِّم مسيرته صلى الله عليه وسلم التي عاشتها معه، فحين نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيت على نفسي))، فقالت خديجة: "كلا والله ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ [2]، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق"[3]. ومن هذا الحديث نتوصَّل إلى فهم يَكمن سرُّهُ في أن الله جل جلاله يوفِّق العبد للخير ويمنحه جل جلاله رضاه ويَرزقه السداد والتوفيق، بمقدار ما يُقدِّمه للناس من خدمات. ولمَن حسَّن مدلولات الحديث المهمة التسلسل في الأهمية لأعمال الخير، وهذه مِن علامات الفِطنة والقوة للأشخاص الذين يؤازِرون الأنبياء عليهم السلام، فلم يكن الطرح جزافًا، فالمرء يبدأ بالخير بذوي الأرحام، ثم لمن انقطع بهم السبيل، فما عندهم أحد يَعرفونه، ثم المحتاجين المعدمين، ثم الضيوف على اختلاف أشكالهم، ثم جاءت بقية نوائب الدهر بشكل عام. يقول جعفر الصادق رحمه الله: "إني لأسارع إلى قضاء حوائج الإخوان مخافة أن يَستغنوا عني بردِّي إياهم"[4].
يقول الشاعر: وكُنْ على الدَّهر مِعوانًا لذي أمَلٍ ♦♦♦ يَرجو نَداكَ؛ فإنَّ الحُرَّ مِعْوانُ • التعامل بنُبْل مع الآخرين، وحين يكون الإنسان نبيلاً فسيكون قد بلغ أرقى مقامات الرقي البشري، والعفة من النزعات النفسية الدنيئة، فالنبيل هو من تسقط عنده المراتب المادية الدنيوية ويكون معياره معيارًا إلهيًّا، فمِعياره لتقويم الآخرين قول الله جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، والنبل يقتضي الصفح عمن أساء إليك، ومجازاة من أحسن إليك، كما ويَقتضي النظر إلى الناس على أنهم مُتكافئون في الإنسانية ولهم نفس الحقوق التي لك. لقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يرى في أبي هريرة وأنس بن مالك وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم وغيرهم - ممن كانوا يعانون من الفقر المدقع، والعَوز الشديد - أنهم أصحاب أوفياء وأصدقاء أعزاء، وربما قدَّمهم على غيرهم في المواقف التي تتطلب ذلك، بل كان أبو هريرة رضي الله عنه وهو خادمه الناقل الأمين الحاذق لجزء كبير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، كما أن النُّبل يعني العطاء غير المحدود ومن غير مقابل، وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنبل إنسان عرفته البشرية؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المُرسَلة"[5]. والنُّبل المنشود ليس مع إفلاس الفرد مِن أي مواصفات أو مهارات، بل مع وجود مؤهلات مادية كبيرة يقاومها الفرد للوصول إلى درجة النُّبل الذي يُشار له بالبنان؛ يقول حافظ إبراهيم: صحِبتُك حِقبةً فصَحِبتُ حُرًّا أبِيًّا لا يُهانُ ولا يُهينُ نبيلَ الطَّبعِ لا يغتابُ خِلاًّ ولا يُؤذي العشير ولا يمينُ ولم يَثنِ الوعيدُ لهُ عنانًا ولم تحنَثْ لهُ أبدًا يمينُ ولم تنزِل بعزَّته الدَّنايا ولم يعلَق به ذُلٌّ وهونُ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم الناس أن يكونوا نُبلاء في التعامل، فـ "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّث أصحابه إذ جاء رجل من الفقراء فجلس إلى جنب رجل من الأغنياء، فكأنه قبَضَ من ثيابه عنه، فتغيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخشيتَ يا فلان أن يعدو غناك عليه، وأن يعدو فَقره عليك؟)) قال: يا رسول الله، وشرٌّ الغِنَى؟ قال: ((نعم؛ إن غناك يدعوك إلى النار، وإنَّ فقرَه يَدعوه إلى الجنة)) فقال: فما يُنجيني منه؟ قال: ((تواسيه)) قال: إذًا أفعل، فقال الآخر: لا إربَ لي فيه قال: ((فاستغفر، وادعُ لأخيك))[6]. يقول أبو الفتح البستي: مَنْ سالَمَ النَّاسَ يسلَمْ من غوائِلِهمْ ♦♦♦ وعاشَ وَهْوَ قَريرُ العَينِ جَذْلانُولأجل التعرُّف على ما ينبغي أن يكون عليه الفرد الإيجابي في الأزمات، نذكر الآتي: • عدم التأثُّر بالضُّغوط: وتحدُث الضغوط من جراء الأزمة؛ سواء من الأشخاص أو مما يُعرف بضغوط العمل، فالفرق بين من يتأثر ومن لا يتأثر هو بقاء الفرد في سيطرة تامة متوازنة على تفكيره وأدائه، ممَّن يكون في حالة ذهنية مرتبكة ومشتَّتة، فينصاع لكل من يعطيه رأيًا ظانًّا أن فيه الحل. • مخاطِر اتِّباع هوى النفس: وهي ظاهرة على عكس التي قبلَها، بل هي تُناقضها تمامًا، فيُسرع من يَحتاج أن يعطي رأيًا أو قرارًا إلى اتخاذه من غير مشورة اعتمادًا على قدراته التي يرى أنها هائلة. • التخلُّص من الخوف: مِن أكثر الأمور التي تجعل صاحب القرار يتَّخذ قرارات خاطئة، هو أن يكون قد اتخذ قرارًا لم يكن صائبًا في مرة أو مرات قبل ذلك، فالخوف من الفشل يجعله سجين خيالاته السلبية، بأنه غير قادر على اتخاذ قرار صحيح مرة أخرى. • تجنُّب الغضب: فالغضب مؤثِّر خطير على اتخاذ القرارات في حالة الأزمات، فالمرء في العادة يأخذ قرارات غير صائبة في حالة كونه غاضبًا، لأن الغضب يؤدي إلى هيجان الحالة العاطفية وتطغى على الحالة العقلية التي ينبغي أن تكون هي المتحكِّمة في تلك الأثناء. • أثر السرعة في اتخاذ القرار: فمن يُطلب منه اتخاذ قرار في وقت أزمة يَنبغي ألا يأخذ كثيرًا من الوقت في التفكير، وأقصد أن يأخذ وقتًا أكثر من الطبيعي، فيُضيِّع على من يعمل معهم الفرصة التي تسنح لهم، فعدم الاهتمام بضرورة سرعة اتخاذ القرار قد يؤدِّي إلى اتخاذ قرارات خاطئة. • الهروب مِن اتخاذ القرار: كثيرٌ ممَّن يخافون من الفشل يُفضِّلون عدم اتخاذ القرار، لذا فأسوأ ما يمكن أن يتَّخذه الفرد وقت الأزمات هو ألا يتخذ قرارًا. وأخيرًا فإن ظروف الأزمات فرصة مناسبة لمعرفة أنواع الرجال وصقْل شخصياتهم؛ ففي الأزمات إيجابيات لا يَعيها إلا من يقرأ الحياة بشكل صحيح والأزمات بشكل خاص. • العمل بمبدأ الكتف: وهي قاعدة إنسانية رائعة، وقيمة أخلاقية عظيمة، وفائدة اجتماعية لا تقدَّر بثمن، وضع أساسها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي تربط ما يُقدم من خدمة مِن قِبَل الفرد للآخرين مع الإيمان، وهي تنظِّم العلاقة مع الله جل جلاله ومع الناس، فهي عبادات ومعاملات، فمن أهم نتائجها تعزيز رصيد الفرد في الآخرة مما يعزز موقفه في الدنيا، حيث إن ما يُقدم الإنسان من خدمات مختلفة للناس على تنوع أشكالها، لن تذهب سدىً وستسجل له وتنفعه يوم القيامة؛ فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلُّها غير كتفها))[10]. • الشخصية المتميزة: والتميُّز يظهر بشكل لا لَبْسَ فيه حين يقدِّم الفرد للآخرين أمورًا لا يستطيع غيره تقديمها، كمًّا أو نوعًا أو توقيتًا، ولكن الكثير من الناس من يقع في وهم نفسه، وفخِّ الشيطان، عندما يَعتقِد بأن التميز يعني أن يلبس شيئًا يعجز الآخرون عن لبسه أو يركب مركبًا لا يركبه غيره، أو يَقتني أثاثًا لا يستطيعه غيره، هذا التميُّز الشكلي الوهمي تكون نتائجه سلبية في العلاقات؛ لأنه إما أن يعلم الآخرون حقيقتَه فستذهب جهوده وماله هباءً، وتتحطَّم صُورته في نظَرِ الآخرين، وإما أنَّ الآخرين لا يعرفون حقيقتَه فيظنون أنه على الحق، فيقدِّمون له الاحترام والإجلال، ويُقوِّمونه تقويمًا خاطئًا، ويضعونه بمقام لا يستحقه، وسيكون في الأمر خديعة ستنتهي بالفشل الذريع ولا شكَّ، لقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في هذا الأمر؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس بين أصحابه لا يميِّزه عنهم ملبس ومجلس، ربما ميزه صلى الله عليه وسلم نور الوجه ووضاءتُه فحسب؛ فقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقَله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متَّكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ"[11]، فلو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يميزه في المظهر أو المجلس - كأن يكون له عرش كالملوك - لما اضطرَّ هذا الرجل الغريب أن يسأل الأصحاب رضي الله عنهم ليُعلِموه من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتميز ينبغي أن يكون عمليًّا، ومما فيه خير ومنفعة للآخرين قبل النفْس؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة[12]))[13]، ومِن الضروريِّ الانتباه إلى اللفظ النبوي الشريف لـ(الراحلة) كتعبير عن التميُّز، والراحلة مع الإبل في القافلة في العادة، ولكنها تتميَّز بأنها تحمل الأمتعة والغذاء، وربما الماء، ما يعني معها منافع القوم وحاجاتهم للحياة، وهذا هو المطلوب من المتميز؛ أن يقدِّم للناس أمورَ ديمومة حياتهم وبقائهم، وهذا هو الأمر الإيجابي المهم الذي يجب أن نكون عليه مع الآخرين. • تعزيز الثقة في نفوس الآخرين، فيَعمل الفرد بموجب العلاقة الإيجابية التي تربطه مع الآخرين لتعزيز الثقة في أنفسهم عن طريق تقديم الدعم اللازم لهم، وتتحقَّق هذه القضية بما يأتي: • تعريفه بمسؤوليته في العمل وحدود صلاحياته، وليس تكليفه بالعمل وترك الحبل على الغارب لا يَدري ما الذي له وما الذي عليه، حتى إذا نجَح قلنا له: إنك تؤدي الواجب الذي عليك على أحسن ما يرام، وينال الرضا وربما المكافأة، وإن أخفق أو قصر وبخناه وزجرناه، وربما عاقبناه، والحقيقة أننا نحن السبب في هذا الإخفاق؛ لأننا لم نسمِّ له الأشياء بمُسمياتها. عن شريح[14]، أنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله، فكتب إليه: "أن اقضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقضِ بما قضى به الصالِحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقضِ به الصالِحون، فإن شئتَ فتقدَّم، وإن شئتَ فتأخَّر، ولا أرى التأخُّر إلا خيرًا لك، والسلام عليكم"[15]. • احترام عقل المقابل ودعم قراراته، وتشجيعه على إعمال عقله وإظهار أفكاره في المواضِع المُناسِبة، وتناولها، وتقديم الدعم المناسِب للصالح منها؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟))، فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبدالله: فاستحييتُ، فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي النخلة)) قال عبدالله: فحدثتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: "لأن تكون قلتَها أحب إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا))[16]. • عدم الحكم على الشخص بالنوايا غير المُعلَنة، وإنما يكون الحكم على ظاهر أقواله وأفعاله، وذلك معنىً مهمٌّ من معاني العدالة المطلوبة، التي يُفترَض أن تسود في كل أنواع العلاقات البشرية، ولكن بوصلة واقع الحال تُشير إلى الاتجاه الخطأ؛ فالكثير مِن القرارات المهمَّة والخطيرة تؤخذ على أساس تحليل لنوايا الآخرين، أو بناءً على استشرافات لأمور مستقبلية، فتتخذ قرارات خاطئة في هذا الصدد، وقصة الصحابي الذي قتل رجلاً بعدما أعلَنَ إسلامه معروفة، وكيف تعامل معه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعن أسامة بن زيد قال: بعَثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريَّة، فصبَّحْنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنتُه، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرتُه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقال: لا إله إلا الله، وقتلته؟)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: ((أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟))، فما زال يكرِّرها عليَّ حتى تمنَّيتُ أني أسلمت يومئذ"[17]. • التشجيع على الإنجاز، فالإنجاز المتميِّز حريٌّ أن يُشار له ولصاحبه بالبنان، فإنَّ ذِكْر الإنجاز وحقيقته ومدى إيجابيته في العلاقة بشكل خاص وفي الحياة بشكل عام له تأثيره وصداه في مسيرة العلاقة وديمومتها، وكل صاحب إنجاز يحب أن يُذكَر إنجازُه باسمه، ويعرِّف بحقيقة قيمته أمام الآخرين، وهذه سنة كونية جُبِلَ الإنسان عليها، فيَنبغي ألا تُترك، ولقد كان السلف الصالح أصحاب مبدأ في هذا المجال، ففي معركة اليرموك بين المسلمين والروم، استطاع القائد العربي المسلم زُهرة بن حيوة قتل القائد الرومي المعروف الجالينوس، وعندما جاء بسلبه استكثر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سلب الجالينوس، فكتب فيه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتَبَ عُمر رضي الله عنه إلى سعد: تَعمد إلى مثل زهرة وقد صُلي بمثل ما صُلي به، وقد بقي عليك مِن حَربِك ما بقي تُفسد قلبه، أمضِ له سلَبَه، وفضِّله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة. ولن نستغرب هذا الفهم، فلقد جاءت آيات القرآن الكريم بالثَّناء على مواقف الأنبياء تترى، فمِنهم من مُدح بأنه أوَّاه مُنيب، والآخر: كان صادق الوعد، والآخر كان حنيفًا، ومدح القرآن نبيًّا آخر بأنه كان صِدِّيقًا، وهكذا توالى المدح على الأنبياء وهم يَستحقُّون ذلك. • ومِن عظمة الإسلام وعلوِّ ورقيِّ شأنه، وعجيبِ نِظامه، ودقة تنظيمه: أنه لا ينظِّم ويطور وينمي العلاقات الاجتماعية بين الأحياء فحسب، وإنما ينظمها ويوجه بوصلتَها حتى بين الأحياء والأموات، ويضع في ذلك الخطوط الرئيسة في أسس التعامل الإيجابي فيما بينهم، فلا يَعني أن من يموت تنتهي العلاقة بينه وبين الأحياء، بل وجَّهت الشريعة إلى استمرارها وفق نظام معيَّن، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبُّوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))[18]، فضلاً عن توجيه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بزيارتهم والسلام عليهم عند المرور بهم. وقد أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ مِن بني سلمة، وأنا عنده، فقال: يا رسول الله، إن أبويَّ قد هلَكا، فهل بقي لي بعد موتهما من برِّهما شيء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عُهودِهما مِن بعدهما، وإكرام صديقِهما، وصلة رحمهما التي لا رحم لك إلا مِن قِبَلهما))[19]. • لقد تجلَّت الإيجابية التي هي مدار بحثِنا بكل معانيها في أعمال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حين كان برفقة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمَن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في امرئ، إلا دخل الجنة))[20]. وفي الحديث إشارات واضحة للدعوة إلى الإيجابية بمفهومها العام، ومِن قراءة لدلالات الحديث نخرج بمجموعة من المفاهيم التي ينبغي التوقف عندها؛ ومنها: 1- في الإيجابية لا بدَّ مِن التوافُق العمَلي بين الأعمال والأقوال، بمعنى آخر بين النظرية والتطبيق، وبهذا جاء الخطاب القرآني في حدود خمسين موضعًا، فإنَّ القرآن يأتي بالخطاب في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 104]، يقول الإمام البخاري رحمه الله: "كتبتُ عن ألف شيخ وثمانين، ليس فيهم إلا صاحب حديث كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل، يَزيد وينقص".
1- الانتِباه إلى أنها متعلِّقة بأعمال تتعلَّق بالخالق جلَّ جلاله وأخرى تتعلق بالمخلوقين، وفي ذلك دلالة على الربط بين الجزء الرُّوحي والجزء المادي للإنسان. 2- إن ما يُثير الدهشة بالفعل أنَّ حقوق المخلوقين في هذا الحديث كانت أكثر، وأُعطيت أهمية كبيرة جدًّا، فالنسبة المئوية للعمل الإيجابي في هذا الحديث لخدمة البشر تعادل 75% من الإيجابية المَطلوبة في مجمل الحديث، وما ذلك إلا لأهمية دور الإنسان الحقيقي في خدمة أخيه الإنسان. 3- نوعية العمل الإيجابي المتعلِّق بالخالق جلَّ جلاله من النوع الذي ليس معه رياء، إنه الصوم الذي أَمرُه بين العبد وربه جلَّ جلاله، فالناس لا تَدري إن كان الفرد صائمًا أم لا! بينما في بقيَّة العبادات فإن العبد لا يُمكن أن يخفيها، لذلك فإنَّ ذلك ربما كان هو السر في قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجل: إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي))[21]. 4- نوعية الأعمال الإيجابية للبشر متعلِّقة بالنوع الفقير من البشر، أو من النوع الذي لا حولَ له ولا قوة، فتكون إيجابية في ذات الله جل جلاله، ليس فيها مصالح مادية، فالفئة المستهدَفة من البشر لتقديم خدمات لها في هذا الحديث هي: ميت، مسكين، مريض، وهم أضعف حلقات المجتمع في العادة، وهم لا حول ولا قوة لهم إلا بالله جل جلاله. 5- ترتَّب على تلك الإيجابية جزاء كبير؛ ألا وهو دخول الجنة، فلا بدَّ من مراعاة مكافأة الإيجابيِّين في المجتمع بالمكافآت المناسِبة والمُنسجِمة مع حجم العمل المقدَّم مِن قِبَلِهم. 6- الفرص في العمل الإيجابي لا تعدُّ ولا تُحصى، وليس من المستحيل أن يقدم فرد واحد باقة ملونة ومتعدِّدة من الأعمال الإيجابية في وقت واحد، وربما كان هذا الوقت قصيرًا. [1] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني - كتاب الزكاة - باب الحث على المعروف وإعانة الملهوف وإغاثته. [2] جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري: "تحمل الكَلَّ: أي مَن لا يقدر على العمل والكسب، وقال المصنِّف: الكَلُّ العيال، وهو أحد معانيه ويطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى، وأصله من الكلال: وهو الإعياء، ثم استعمل في كل أمر ضائع أو أمر مثقل ومنه قوله: "مَن ترك كلاًّ " أي عيالاً أو دَينًا". [3] صحيح البخاري - باب بدء الوحي. [4] آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة، أبو البركات بدر الدين محمد الغزي، ص57. [5] صحيح البخاري - باب بدء الوحي. [6] الزهد؛ لأحمد بن حنبل - زهد يونس عليه السلام، (1 / 38). [7] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. [8] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة. [9] صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب غزوة أحد. [10] سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، باب الذبائح - أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [11] صحيح البخاري، كتاب العلم - باب ما جاء في العلم. [12] الراحلة: الناقة أو البعير القوي في الأسفار الذي يَحمِل الأمتِعَة، والمراد من الحديث: إنَّ القليل من الناس من يتمتَّع بالصفات القيادية والإيجابية واستكمل المحاسن، ممن يصلح لنفع وقيادة الناس. [13] صحيح البخاري، كتاب الرقاق - باب رفع الأمانة. [14] شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية الكوفي القاضي، تُوفِّي عام 80 هـ، قال عنه ابن حجر العسقلاني: شريح بن الحارث بن قيس الكوفي النخعي القاضي، أبو أمية، مخضرم ثقة، وقيل: له صُحبة مات قبل الثمانين أو بعدها، وله مائة وثمان سنين أو أكثر، يقال: حكم سبعين سنة؛ "تقريب التهذيب" (1 / 265). [15] السنن الكبرى للنسائي - كتاب القضاء - الحكم بما اتفق عليه أهل العلم. [16] صحيح البخاري - كتاب العلم - باب الحياء في العلم. [17] صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله. [18] صحيح البخاري، كتاب الجنائز - باب ما ينهى مِن سب الأموات. [19] صحيح ابن حبان، كتاب البر والإحسان - باب حق الوالدين - ذكر وصف بر الوالدين لمن توفي أبواه في حياته، كما أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه، والإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن ماجه وغيرهم، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي. [20] صحيح مسلم، كتاب الزكاة - باب من جمع الصدقة. [21] صحيح مسلم، كتاب الصيام - باب فضل الصيام. حفظ بصيغة PDF نسخة ملائمة للطباعة تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات مقالات ذات صلة ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العفوية ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التوازن ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: المصداقية ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: الواقعية ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العقلانية ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التجرد ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العمل الجماعي ركائز دعوية مختارات من الشبكة ركائز الدعوة(مقالة - آفاق الشريعة) ائتلافنا وتعظيم الشرع وطاعة ولاة الأمر بالمعروف ركائز أمننا واستقرارنا ورخائنا ومواجهة كيد أعدائنا(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع) ركائز موضوعات الأخلاق في دعوة طالبات المرحلة الثانوية(مقالة - مجتمع وإصلاح) ركائز موضوعات الشريعة في دعوة طالبة المرحلة الثانوية(مقالة - ثقافة ومعرفة) ركائز موضوعات العقيدة في دعوة طالبات المرحلة الثانوية(مقالة - ثقافة ومعرفة) من ركائز الإنصاف في مباحث الخلاف(مقالة - الإصدارات والمسابقات) ركائز التغيير الذاتي(مقالة - مجتمع وإصلاح) آفاق الوقف والعمل الخيري(مقالة - ثقافة ومعرفة) خواطر حول فريضة الحج(كتاب - مكتبة الألوكة) ركيزتان للإعجاز العلمي في القرآن(مقالة - موقع د. حسني حمدان الدسوقي حمامة) رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/92701/#ixzz4fa6JgiHH
Inscription à :
Articles (Atom)